منير قبطي يكتب : المسلسلات التلفزيونية وتشويه صورة المرأة .. بين الواقع والدراما
إلى زوجتي، وإلى ابنتي،إلى من أرى فيهما قوة المرأة الحقيقية، وعزيمتها التي لا تُكسر، وذكاءها الذي يضيء الحياة من حولها. هذه المقالة ليست مجرد كلمات مكتوبة، بل هي تعبير عن احترامي العميق وتقديري لكنّ،
منير قبطي - صورة شخصية
ولكل امرأة تناضل من أجل مكانتها، وتثبت كل يوم أنها قادرة على تحقيق المستحيل.
لطالما لعبت المسلسلات التلفزيونية دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الاجتماعي، لكنها في كثير من الأحيان تعكس صورًا نمطية تتعارض مع الواقع، خاصة فيما يتعلق بالمرأة. فمن خلال مشاهد رومانسية جذابة وأحداث درامية مشوقة، تكرّس هذه الأعمال صورة المرأة على أنها ضعيفة، تابعة للرجل، وعاجزة عن اتخاذ قراراتها بنفسها. هذه الظاهرة ليست مقتصرة على بيئة ثقافية معينة؛ فهي تمتد عبر مختلف اللغات والجنسيات، من المسلسلات العربية والتركية إلى نظيراتها اللاتينية والآسيوية. واللافت أن جمهور هذه الأعمال يتكون في الغالب من النساء أنفسهن، اللواتي يجدن أنفسهن عالقات بين الاستمتاع بالقصص العاطفية من جهة، وإعادة إنتاج صورة نمطية مشوهة عن دورهن في المجتمع من جهة أخرى.
أتذكر شقيقتي - رحمها الله - التي كانت تعيش في الولايات المتحدة وتتابع مسلسلًا بدأ عرضه في عام 1973 وما زال مستمرًا حتى اليوم، مما يعكس مدى تعلّق المشاهدين بهذه الأعمال التي تبدو وكأنها لا تنتهي. لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في طول مدة عرض المسلسلات، بل في المحتوى الذي تقدّمه. في كثير من الأحيان، نجد المرأة محصورة في أدوار نمطية: فهي إما الفتاة الضعيفة التي تنتظر من ينقذها، أو الزوجة المضحية التي تتحمل الخيانة والعنف باسم الحب، أو الفتاة الفقيرة التي تقع ضحية لرجل متسلط لكنه يتحول في النهاية إلى فارس أحلامها، فتتناسى كل إهاناته وظلمه لها. هذه الحبكات الدرامية تعزز ثقافة تقبل العنف والإهانة وكأنها جزء لا يتجزأ من العلاقات العاطفية، وهو ما يرسّخ لدى الأجيال الشابة مفاهيم خاطئة عن الحب والاحترام.
" قصص من تأليف الرجال "
من اللافت أن معظم هذه القصص هي من تأليف الرجال، إذ إنهم المسيطرون على صناعة السيناريو والإخراج، في حين أن نسبة قليلة من هذه الأعمال تكتبها النساء. هذا يفسر لماذا تظهر المرأة في هذه المسلسلات كما يراها الرجل، لا كما ترى نفسها. فالرجل المؤلف أو المخرج غالبًا ما يعيد إنتاج صورة نمطية تخدم تصوره الخاص لدور المرأة، فيجعلها إما شخصية ضعيفة بحاجة إلى الحماية، أو امرأة شريرة تُعاقب على طموحها واستقلاليتها. وفي الحالات النادرة التي تتولى فيها النساء كتابة السيناريو، نجد أدوارًا أكثر واقعية، تعكس قوة المرأة وتعقيداتها بعيدًا عن الكليشيهات المتكررة.
لكن حين نلتفت إلى الواقع، نجد صورة مختلفة تمامًا. فالمرأة اليوم ليست فقط أماً ومربية، بل هي قاضية، طبيبة، قائدة، وسياسية، تنافس الرجل في جميع المجالات، وتتحمل مسؤوليات كبيرة في المجتمع. هناك نساء يقُدن دولًا، وأخريات يحققن إنجازات علمية واقتصادية، بينما تعاني كثيرات من تحديات مضاعفة نتيجة الأدوار النمطية التي تحاول بعض الأعمال الدرامية فرضها عليهن. ومع ذلك، تستمر هذه المسلسلات في تقديم صورة متخلفة عن المرأة، وكأن الزمن لم يتغير.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تستمر النساء في متابعة هذه الأعمال رغم إدراكهن لمضمونها السلبي؟ ربما يكون الأمر مرتبطًا بالاعتياد، أو الحاجة إلى الترفيه، أو حتى البحث عن قصص رومانسية خيالية للهروب من الواقع. لكن النتيجة تبقى واحدة: تعزيز صورة مغلوطة يتم تمريرها من جيل إلى جيل، مما يساهم في ترسيخ أفكار تقلل من قيمة المرأة وتكرس تبعيتها للرجل. ومن المفارقات أن الممثلين الذكور غالبًا ما يكتسبون شهرة واسعة بفضل هذه الأعمال، بينما تبقى الممثلات في ظلهم، وكأن نجاحهن مرهون بوجود “البطل” إلى جانبهن.
أحد الأساتذة في جامعة أمريكية سُئل ذات مرة: “متى ستحصل المرأة على حقوقها الكاملة؟” فأجاب: “عندما تكون هي من يشرّع القوانين الخاصة بها.” هذه الإجابة تكشف بوضوح أن التغيير الحقيقي يبدأ من تمكين المرأة في جميع المجالات، وليس فقط في مجال التمثيل الإعلامي. فطالما أن القرارات الرئيسية تُتخذ من قبل الرجال، ستظل المرأة عالقة في صورة لا تعبّر عن حقيقتها. لذا، فإن الخطوة الأولى نحو التغيير تبدأ من الوعي؛ على النساء أن يدركن خطورة الصورة التي تروّجها هذه المسلسلات، وأن يرفضن دعم الأعمال التي تكرّس التمييز والتبعية. قد تبدو مقاطعة هذه المسلسلات أو نقدها بوعي خطوة صغيرة، لكنها تحمل تأثيرًا كبيرًا على المدى البعيد.
في المقابل، لا بد من دعم الأعمال التي تقدّم صورة حقيقية للمرأة، وتعكس قوتها ودورها الفاعل في المجتمع. فالإعلام ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل هو أداة تشكيل وعي، وإذا استمر في تقديم المرأة كعنصر هامشي في القصة، فلن يكون مفاجئًا أن يستمر المجتمع في النظر إليها بنفس الطريقة. آن الأوان للمرأة أن تتوقف عن لعب دور الضحية في الدراما، وأن تكون هي من يروي قصتها الحقيقية، سواء على الشاشة أو في الواقع.
ولا ننسى أن هذه المسلسلات لا يمكن أن تستمر دون دعم مالي ضخم يأتي من الشركات التجارية التي ترعى إنتاجها، وتستخدمها كمنصة للترويج لمنتجاتها التي تُباع لكم وتستهلكونها يوميًا. هذه الشركات تربح منكم بينما تساهم في تشويه صورة المرأة التي هي الأم، الزوجة، الابنة، والقائدة. إذا كنتم تؤمنون بأن المرأة تستحق الاحترام الحقيقي، قاطعوا هذه الشركات ولا تدعموا منتجاتها حتى تعيد النظر في محتوى الأعمال التي تموّلها، وتبدأ في تقديم صورة تليق بالمرأة التي تبني المجتمعات وتنهض بها. التغيير يبدأ منكم، والقرار بأيديكم.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il
من هنا وهناك
-
مقال: الرّجوع إلى الحقّ - بقلم : الشيخ عبد الله عياش - عضو حركة الدعوة والإصلاح
-
الاعلامي محمد السيد يكتب : الإمارات مزيجٌ من الإنسانية والسياسة
-
بين السياسة والفيزياء - قوانين مشتركة | مقال بقلم : المحامي زكي كمال
-
المحامي يوسف شعبان يكتب : كيف تعرف انك مطلوب لدى الشرطة الدولية ‘الانتربول‘؟
-
مقال: ‘ شكرا لزميلي غزال ‘ - بقلم: المحامي محمد بشير رئيس بلدية سخنين السابق
-
مقال: سياسة الرسوم الجمركيّة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتأثيرها في الاقتصاد العالمي - بقلم : إياد شيخ أحمد
-
‘ الصّلح سيّد وأهله حكماء‘ - بقلم : الشّيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلاميّة
-
مقال: المنطلقات الدينية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية - بقلم : الدكتور عمر رحال
-
المحامي زكي كمال يكتب : حان الوقت لتقول الشعوب كلمتها ضدّ التطرّف والتزمّت
-
أي برقوق طعمه أطيب؟ حرب الألوان في الطبيعة
التعقيبات