بين طهران و ‘ اتفاقيات ابراهام ‘ وصولًا إلى حلف ‘ناتو‘ عربيّ - إسرائيليّ
بينما يترقب الجميع زيارة الرئيس الأمريكيّ جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط عامّة، وإلى العربيّة السعوديّة في الخامس عشر والسادس عشر من الشهر الحالي،
المحامي زكي كمال
تموز 2022، وقبلها بيومين إلى إسرائيل، خاصة، ورغم أن الزيارة ما زالت في طور الإعداد الأخير والتحضير، ورغم الاعتقاد الأوليّ والسائد بأن الزيارة إلى السعوديّة تأتي في وقت دفعت فيه المصالح الإستراتيجيّة للولايات المتحدة في مجال الأمن والنفط، والتي ضعضعتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ودفعت إدارة بايدن إلى إعادة التفكير في الموقف " المتشدد " الذي تعهد بايدن باتّخاذه تجاه السعوديّة أثناء حملته الانتخابيّة، إلا أن ملابساتها ودوافعها الحقيقيّة وأهدافها بعيدة المدى، أوسع من ذلك بكثير فهي " حلة جديدة " تحيكها الولايات المتحدة من خيوط منوعة وملونة تمتد من " اتفاقيات إبراهام " وصولًا إلى قمة النقب واللقاءات العلنيّة والسريّة بين كبار الشخصيات العسكريّة في إسرائيل والدول العربيّة كما كان في حالة اللقاء المباشر في شرم الشيخ، بين رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيليّ الجنرال أفيف كوخافي ونظيره السعوديّ الجنرال فياض بن حامد الرويلي إلى جانب ممثلين عن الولايات المتحدة ومصر والإمارات والبحرين وقطر والأردن، والذي كشفت عنه صحيفة " وول ستريت جورنال " الأمريكيّة الموثوقة، وما كشفته مصادر صحافيّة إسرائيليّة حول زيارة ضابط عربيّ كبير ورفيع المستوى إلى إسرائيل ولقاءات هامة عقدها في مقر وزارة الأمن الإسرائيليّة في مدينة تل أبيب المعروف باسم " هَكِرْياه "، قال خلالها كما نقلت الصحف الإسرائيليّة أنه لو أخبره أحدهم قبل عام أنه سيزور إسرائيل ويلتقي قادتها وضباطها العسكريّين وينظر إلى مدينة تل أبيب عبر شباك مكتب مضيفه الضابط الإسرائيليّ البارز من المقر الرسميّ لوزارة الأمن، لأخبر ذلك " الأحدهم " بأنه يهذي وبأنه مجنون، وصولًا إلى التوتر الأمنيّ الأخير مع حزب الله وحادثة إطلاق الطائرات الثلاث المسيرة باتجاه منصة استخراج الغاز الإسرائيليّة " كاريش " في البحر المتوسط والتي يسود الخلاف حولها بين إسرائيل ولبنان بينما يقود حزب الله بدعم وتمويل وتوجيه وتشجيع إيراني جوقة المعارضين ( مقابل جوقة مؤيدين تدعمها السعودية ودول الخليج يقودها وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب ) لمطالب اسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية وهو ما سيحدد ملكية المنصة وحقول الغاز وكيفية اقتسامها، وهو ما كان في صلب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيليّ الجديد يائير لبيد إلى باريس ولقائه الرئيس الفرنسي عمانوئيل ماكرون " الوصي أوروبيًّا على لبنان "، إضافة إلى الشأن النوويّ ومحاولات طهران امتلاك أسلحة نوويّة، مرورًا بالزيارة الخاصة وغير المسبوقة التي قام بها قادة المنطقة الوسطى في الجيش الأمريكيّ وبضمنهم قادة سلاح الجو وسلاح البحريّة وغيرهم إلى إسرائيل والتي لم تقتصر كما سابقاتها ومنذ عقود على نصب بطاريات الباتريوت الدفاعيّة الأميركيّة في مناطق عديدة من إسرائيل، بل إنها كانت فرصة ممتازة وعمليّة لبحث خطط وبرامج عسكريّة مشتركة لمواجهة أي حرب أو مواجهة قادمة ستخوضها، وللوقوف على التحديات التي تواجهها إسرائيل مؤكدًا أن أي حرب قادمة ستواجهها إسرائيل ستكون في المنطقة الواقعة ضمن نفوذ وقيادة المنطقة الوسطى المذكورة، وبالتالي فإن الجيش الأمريكيّ سيكون شريكًا في هذه الحرب، وانتهاءً بالقمة المتوقعة خلال زيارة بايدن إلى السعوديّة مع دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى مصر والأردن في محاولة لتشكيل ناتو عربيّ سنّيّ مضاد لإيران، تشير إلى حقائق عدة، أولها أن العنوان الأول للزيارة سيكون إيران وأن الهدف منها سيكون إيران وأن نتائجها الواضحة والمضمونة وقبل أن تبدأ الزيارة، ستكون أن إسرائيل هي الرابح الأكبر مقابل إيران وحلفائها الذين سيكونون الخاسر الأكبر وبضمنهم حزب الله اللبنانيّ الموالي لإيران والذي حذَّرت إسرائيل مرارًا وتكرارًا من أن خطواته قد تجر لبنان الى مواجهة عسكريّة مع إسرائيل، وهذا آخر ما يريده ويتمناه خاصة على خلفية رزمته الاقتصاديّة وأزمة الوقود والدواء والعلاج الطبيّ والفراغ الدستوريّ الذي يعيشه والشلل السياسيّ الذي يعانيه، علمًا أن حزب الله يحاول تخفيف الأعباء عن مؤيديه عبر أموال إيرانيّة ودعم إيرانيّ ووقود إيرانيّ يصلهم دون غيرهم.
" معركة ما بين الحروب "
هذه الزيارة وما سبقها خلال الأشهر الأخيرة من " معركة ما بين الحروب " التي دارت رحاها في رحاب البحر الأحمر والخليج العربيّ عبر هجمات متبادلة للسفن وناقلات النفط الإيرانيّة وسفن إسرائيليّة، ورغم أن هويّة منفذي الهجمات على السفن الإيرانيّة لم تتضح بعد، كما لم تتضح بوضوح وجلاء هويّة منفذ عمليات الاغتيال التي طالت خبراء في المشروع النووي الإيرانيّ وصناعات الأسلحة والأضرار التي ألحقتها الهجمات السيبرانيّة بالمصانع الإيرانيّة والمنشآت المصرفيّة، تؤكد أمرين: أولهما أنه من الواضح لكل من في رأسه عينان أن إيران تحولت في نظر العالم وبسبب نظامها المتزمت والمنظمات التي تدعمها طهران وتوكل إليها مهمة تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وتطبيق مبدأ ولاية الفقيه ونشر فكر الثورة الخمينيّة ومحاولة استعادة أمجاد الإمبراطوريّة الفارسيّة ( مقابل الإمبراطوريّة التركيّة العثمانيّة والتي ستعود إليها لاحقًا ) إلى مصدر للقلق والتوتر والى جهة تتضافر الجهود لمواجهتها بين أصدقاء اليوم الذين كانوا أعداء الأمس اللدودين أو على الأقل خصوم الأمس علنًا، أو لمحاربتها واتقاء شرورها عبر تحالفات سياسيّة عسكريّة تشكل إيران عمادها وسببها والمبرر الوحيد لها، وهو ما حدث في قضية التحالفات الجديدة التي تشهدها المنطقة والإصطفافات الجديدة التي تتحرك وتتغير ككثبان الرمال في الربع الخالي، فتتشكل حالتها وتتغير صورتها وتتبدل، وخير مثال على ذلك هو اتفاقيات إبراهام مع الإمارات والبحرين من جهة والتقارب التركيّ - السعوديّ مؤخرًا والزيارات المتبادلة بين الطيب رجب أردوغان والأمير محمد بن سلمان وتقارب تركيا والدول الأوروبيّة وتنازل أنقرة عن معارضتها الصارمة لضم فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسيّ، وهي معارضة كان بإمكانها منع ضم هاتين الدولتين خاصة وأن ضم الأعضاء الجدد إلى الحلف يتم بالإجماع، وكذلك عودة المياه إلى مجاريها بين مصر وقطر استمرارًا لعودتها إلى طبيعتها بين الدول الخليجية وقطر بعد الحصار والقطيعة التي بدأت عام 2017، رغم أن التقارب المصريّ القطريّ، يشمل أبعادًا أخرى تتعلق بالمونديال القريب وموقف مصر من مضامين قناة الجزيرة وغيرها، والحديث عن تقارب سعوديّ - إسرائيليّ بدأ بموافقة السعوديّة على فتج أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية المتوجهة إلى الشرق الأقصى وكذلك الإمارات، والزيارة التي قام بها إعلاميّون إسرائيليّون إلى السعوديّة ونشرت تفاصيلها هذا الأسبوع القناة التلفزيونيّة 13، ضمن تقرير مصور كشف ترحيب المواطنين السعوديّين بالصحافيّين رغم كشفهم أمامهم عن هويّتهم الحقيقيّة وبأنهم يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة، والتي ربما ستصل حد إقامة العلاقات العاديّة والطبيعيّة بين البلدين وهي خطوة يؤيدها ولي العهد محمد بن سلمان، الذي بارك " اتفاقيات إبراهام " وورشة المنامة قبلها، وسبق له وأن وجه انتقادات للفلسطينيّين حول عرقلتهم إمكانيات تحقيق السلام وتفويتهم الفرصة تلو الأخرى، دون أن يصل الأمر حد التطبيع بسبب مواقف والده الملك سلمان الذي ما زال يصر على أن السلام بين بلاده وإسرائيل لن يتحقق قبل حل القضيّة الفلسطينيّة.
" التأثير لصاحب القوة "
الأمر الثاني الذي تؤكده الأحداث الأخيرة وبضمنها محاولات طهران " تأهيل " روسيا وتدريبها على كيفية تجاوز العقوبات الاقتصاديّة المفروضة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا، هو أن إيران ورغم ما واجهته وتواجهه في السنوات الأخيرة من اقتصاد متدهور ومواطنين يعانون الأمرّين جراء انخفاض قيمة العملة الإيرانيّة وتوقف الإنتاج الصناعيّ وارتفاع نسبة البطالة ودولة تنتج النفط دون أن تتمكن من تكريره واستخدامه، والخسائر البشريّة جراء انخراط ايران في الحرب الأهليّة في سوريا بشكل مباشر عبر فيلق القدس الذي اغتيل قائده قاسم سليماني في العراق، أو غير مباشر عبر " حزب الله " ورغم عزلتها التي تتواصل في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربيّ أو الفارسيّ، والعقوبات الاقتصاديّة ومحاكمات كبار مسؤوليها في الدول الأوروبيّة بتهمة ارتكاب مجازر بحق معارضي النظام، لم تتعلم الدرس اللازم والذي يمكن تلخيصه بأن العالم يمكنه أن يقبل بأنظمة حكم متزمتة ومتطرفة دينيًّا أو عرقيًّا أو سياسيًّا لفترة ما دون أن يقبل بذلك إلى الأبد، والأمثلة على ذلك كثيرة منها ما حدث في يوغسلافيا خلال الحرب الأهليّة التي تدخلت الدول الأوروبيّة لوقفها وحاكمت المسؤولين الصربيّين عنها، وما حدث في بورما التي حصلت رئيسة وزرائها على جائزة نوبل ثم ما لبثت أن تحولت إلى قائدة لحملة تطهير عرقيّ طالت مسلمي الروهينغا في بلادها، وكذلك روسيا التي تحولت في ظل حكم فلاديمير بوتين إلى دولة متزمتة ومتطرفة قوميًّا تريد استعادة أمجاد الماضي التليد، وربما إعادة بناء الإمبراطوريّة الروسيّة حتى على حساب جاراتها ومنهم أوكرانيا وقبلها دول أخرى من دول الاتحاد السوفييتيّ السابق، أي أن طهران ما زالت تواصل تصرفاتها التي تجعلها في نظر العالم خطرًا على جاراتها القريبة والبعيدة والعالم كله عبر صناعة صواريخ بعيدة المدى ومحاولة تسليحها برؤوس نوويّة ودعم حركات مسلحة تشكل ذراعًا لإيران ومنها الحوثيين وحزب الله وفيلق القدس وحزب الله العراقيّ وحركة الجهاد الإسلاميّ في غزة وغيرها، دون أن تدرك أن العالم الذي أصبح قرية صغيرة قد يقبل تصرفاتها هذه بحكم مصالحه من جهة أو قوة الدولة وتأثيرها من جهة أخرى، لكن العالم وبحكم مبدأ " التأثير لصاحب القوة " لا بد سوف يواجهها يومًا ما وربما "يحاكمها وسيحاسبها" لتدفع الثمن ، خاصة حين تَضْعفُ قوتها .
قبل الخوض في التفاصيل، لن أبالغ إذا قلت أن إسرائيل في قرارة نفسها تحمد الله ليل نهار وتشكره على أن إيران موجودة وأنها تتصرف بهذا الشكل وبهذه الطريقة، فهي بهذا إنما تحقق لإسرائيل كافة أحلامها وتحقق لها كافة أهدافها، فهي أي إيران، تدفع جاراتها من الدول العربيّة، وعبر تهديدها لأمنها سواء عبر دعم الحوثيّين في اليمن أو الشيعيّين في البحرين أو دعمها لدولة قطر التي استضافت الجولة الأخيرة من المفاوضات النوويّة، وعبر سعيها إلى أسلحة نوويّة هجوميّة وعدم الاكتفاء بطاقة نوويّة لأغراض اقتصاديّة وسلميّة، إلى أحضان إسرائيل وإلى تحالفات معها تبدأ باتفاقيات سياسيّة دبلوماسيّة تتلوها اتفاقيات اقتصاديّة بقيمة مليارات الدولارات وخاصة في مجالات التقنيات المتقدمة وتحلية المياه والتقنيات الزراعية والسياحة وتعاون عسكريّ وأمنيّ، وتتعدى ذلك إلى تحالفات إقليميّة أو أحلاف إقليميّة هدفها المعلن أمنيّ وعسكريّ لكنها تتحول إلى وسيلة للتغلغل والسيطرة، كما أنها بتعنتها وتزمتها وأصوليّتها تصل حالة يبتعد فيها عنها أصدقاؤها كما فعل الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان، الذي خفف من سخونة علاقات بلاده بإيران وقطر واستعاض عنها بتقارب واضح وحميم مع المملكة العربيّة السعوديّة وأميركا والدول الأوروبيّة، وبإعادة علاقات بلاده مع إسرائيل إلى سابق عهدها عبر استقبال رئيسها إسحق هرتسوغ ووزير خارجيّتها واتصالات متواصلة مع رئيس وزرائها، فهو بحاجة إلى رضى أمريكا وأوروبا على بلاده وهذه غاية لا يُصار إليها إلا عبر بوابة إسرائيل، ناهيك عن أن الدول المجاورة لإيران اقتنعت بالرواية الاسرائيليّة الأميركيّة من أن طهران هي التهديد الأساسيّ لها ولأمنها ومواطنيها، ولذلك من مصلحتها مصالحة إسرائيل وربما الانضمام معها إلى معاهدة دفاع إقليميّة بغطاء أمريكيّ وإقامة علاقات طبيعيّة معها، والتنازل بغية تحقيق ذلك عن الشرط الأزليّ للسلام مع إسرائيل، وهو حل النزاع الإسرائيليّ – الفلسطينيّ عبر حل الدولتين، ما يعني إضعاف الفلسطينيّين والتخلي عنهم وإبقاءهم وحدهم في مواجهة إسرائيل يساندهم الأردن بشكل منقطع النظير، والنتيجة هي أن سياسات إيران وتهديدها - الحقيقيّ أو المُتَخَيَّل لجاراتها- كان الدافع للصلح مع إسرائيل على حساب إضعاف الفلسطينيّين وجعل قضيتهم تتحول من قضية العرب الأولى إلى قضية الفلسطينيّين والأردن وحدهم، ناهيك عن أن هذه السياسات كانت هاجسًا أمنيًّا دفع بدول الخليج وخاصة السعوديّة والإمارات وكذلك مصر، إلى عقد صفقات أسلحة بمئات مليارات الدولارات مع أميركا والدول الأوروبيّة وإلى اتفاقيات أمنيّة وسيبرانيّة بمليارات الدولارات مع إسرائيل تم الكشف عن النزر اليسير منها وخاصة صفقات شركة إن.إس.أو وبرنامج بيغاسوس للتجسس على الهواتف الخليويّة، ودار الحديث عن أن السعوديّة استخدمته لتعقب جمال خاشقجي وغيره من معارضي النظام، علمًا أن هذه الأموال أمكن استغلالها لتطوير اقتصاد المنطقة والتبادل التجاريّ بينها لمصلحتها جميعًا دون استثناء بما فيها إيران أيضًا.
" تغيير النهج والسياسة "
وإذا كان كل هذا لا يكفي ولسان قادة إيران يقول إن سياساتها الخارجيّة يتم تنفيذها بأيدي جهات مدعومة وليست بأيدي إيران نفسها كحزب الله والحوثيّين، تأتي صورة الأوضاع في إيران لتؤكد أن القيادة الدينيّة المتزمتة في طهران التي تحاول القوى المعتدلة عبثًا " تلطيفها وتخفيف حدتها "، كما حاول الرئيس السابق الإصلاحيّ حسن روحاني أن يفعل عبر تقاربه مع الغرب وحتى أمريكا وكلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هي التي تحدد مصائر شعبها دون إرادته وأنها لكونها المقربة من الهيئات الدينيّة لن تسمح بتغيير النهج والسياسة، وما تلبث أن تنقلب هذه القوى المتزمتة بقيادة إبراهيم رئيسي الذي يصفه الغرب بأنه عرَّاب عمليات إعدام آلاف المعارضين من حركة مجاهدين خلق المعارضة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، على محاولات الإصلاح والليبراليّة والاعتدال، وأن هذه القيادة تعتبر شعبها وسيلة لتنفيذ سياساتها ومآربها الجماعيّة والشخصيّة والحزبيّة، غير آبهة بأنه يستحق حياة كريمة وحرية وآفاق تقدم وتعلم وأنه يجب عليها أن توفر لجيل الشباب ما يكفي من الأسباب والدوافع للبقاء في بلاده وليس الهجرة منها بحثًا عن عمل ودراسة وحرية وحياة...
هذا النهج يخلق حالة تكرِّس كون اسرائيل هي الرابح الكبر من كل ما تشهده المنطقة، فهي كانت الرابحة من الرفض العربيّ للتفاوض والاعتراف والصلح والسلام عملًا بلاءات الخرطوم، وهي كانت الرابحة من السلام مع مصر عبر تحييد أكبر وأقوى دولة عربيّة وعبر إظهار الفلسطينيّين على أنهم من يرفض السلام عبر رفضهم لحل الحكم الذاتي كما جاء في اتفاقيات كامب ديفيد، وهي الرابحة من "الربيع العربيّ" الذي لم يبقِ استقرارًا في الدول العربيّة ولم يذر، بل حولها إلى دول مفككة ومريضة وضعيفة تريد الحياة وتنشد أبسط مقومات الحياة لتصبح الممانعة والمقاومة والنضال من أجل حل القضية الفلسطينيّة وتحرير الأراضي المحتلة حلمًا أو نوعًا من الترف، وهي الرابح من سعي إيران إلى النوويّ عبر جعلها التهديد الأول لأمن الخليج والشرق الأوسط والعالم وصولًا إلى حالة يتحقق فيها القول : "أصدقاؤك ثلاثة: صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك" ، فعدو عدوها (دول الخليج عدوة إيران) هي صديقها وحليفها اليوم، و " اتفاقيات إبراهام "ومحاولات إقامة الناتو الشرق أوسطيّ خير مثال... وهذا ما لم تفهمه إيران حتى اليوم وما لم يفهمه وكلاؤها ومنفذو تعليماتها في الدول المختلفة، وإلا كيف يمكن فهم معارضة حزب الله لأي مفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول الحدود البحريّة سعيًا إلى تمكين لبنان من الاستفادة ماليًّا واقتصاديًّا وإنتاجًا للطاقة من كميات الغاز الموجودة في المنطقة المتنازع عليها، وهي غنية بالنفط والغاز وتبلغ 860 كلم مربع ، فكانت النتيجة دخول أمريكا على الخط بشخصية الوسيط المحايد، وهي ليست كذلك، فالوسيط الأمريكيّ في قضية الغاز بين لبنان واسرائيل آموس ( عاموس) هوكستين، أقرب إلى مواقف إسرائيل، كما إن إيران لم تفهم بعد أن بناء الإنسان هو الأساس لبناء المكان وأن بناء مجتمع متعلم، منتج، متطور تقنيًّا وفكريًّا واقتصاديًّا هو السبيل لبناء دولة مستقرة وديمقراطيّة يريد الناس العيش فيها والعمل من أجل دفعها قدمًا، وأن الاقتصاد المتين هو السبيل لصناعات متقدمة ربما تشمل إذا احتاج الأمر ذلك صناعات عسكريّة وأمنيّة، لا تصل حد الهوس بامتلاك سلاح نوويّ لن يتم استخدامه، لكنه في نظر القيادة دليل على القوة والعظمة، حتى لو كان على حساب حياة مواطنيها واقتصادهم وإمكانيّات تقدمهم.
وختامًا وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وبما أننا في إسرائيل على عتبة انتخابات خامسة خلال ثلاثة أعوام تشير ملامحها إلى أن المواطنين العرب قنطوا من التصويت وأن قلة قليلة منهم سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع بسبب خيبة أملهم من الأحزاب العربيّة والمناكفات بينها، وبسبب عدم نضوج نتائج تجربة القائمة الموحدة في الشراكة الائتلافيّة، فإنه على الأحزاب العربيّة عامة والقائمة المشتركة عامة أن تعيد بناء سلم أولوياتها، وأن تدرك أن المواطن هو الأهم وأن حقوقه وحياته هي الهدف الأسمى وأن السياسة لا تعترف بالتعنت والتحجر في المواقف، وأن سياسة الرفض الدائم والمتواصل لا تجلب النتائج وأن "التقوقع في قمرة القيادة" بعيدًا عن نبض المواطن والشارع في أحسن الأحوال، وعبر تجاهله واعتبار قبوله للواقع أمرًا مضمونًا ومفروغًا منه أو اعتباره مخزون أصوات عليه الإدلاء بصوته لها فقط لمجرد أنها توجهت إليه يوم الانتخابات مستغيثة وكفى الله المؤمنين شر القتال، هو السبيل الأسرع إلى فقدان الثقة والتأييد وإلى قيادة تُغَنِّي على ليلاها، أو قيادة هي في وادٍ وعامة الشعب في وادٍ... والعواقب وخيمة .
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il.
من هنا وهناك
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
-
وداعًا أستاذ فتحي - بقلم : أ. مأمون ادريس عبد القادر
أرسل خبرا