‘ سر العمة نعيمة‘ - قصة بقلم : ناجي ظاهر
احب ركاد عمته نعيمة، الا انها لم تبادله الحب، وكان كثيرا ما يشعر انها تبتعد عنه كلما اقترب منها، الامر الذي اثار حب استطلاعه، ودفعه كلما دخل الى البيت، للنظر الى باب غرفتها، فاذا ما رآه مقفلا عرف انها هناك،
ناجي ظاهر بريشة ازهار عياد
اما اذا كان مفتوحا فإنها تكون خارج البيت،.. اما تُقدّم الحقن الطبية لهذا المريض المحتاج المقعد،، واما في عملها الجزئي في مستشفى "ملائكة الرحمة"، في المدينة.
منذ فتح ركاد عينيه على الحياة، في بيت اهله الضخم الغائر في اعماق البلدة القديمة، استحوذ على اهتمامه حب معرفة عدم زواج عمته، ابنة الخمسين، وانتقالها للعيش مع اخيها وزوجته في بيتهما، وكان كلما مضت الايام الح عليه السؤال ذاته، فعمته اجمل من امه، ومع هذا امه تزوجت وهي لا.. لم تتزوج، وهي امرأة عاملة تعمل في مجال التمريض،.. وامه لا تعمل، لهذا كان يغتنم كل فرصة ليعرف سر عمته المعتم المضبب الخفي، فكان يحاول استراق السمع الى كل كلمة يستمع اليها عنها.. منها او من احد والديه، دون ان يحظى بأية اجابة شافية.
كبر ركاد، واصبح في الثامنة عشرة من عمره، دون ان يعرف سر عمته، وكله رغبة في ان يعرفه، وكثيرا ما كان يدخل الى غرفتها عندما تكون أبوابها مشرعة على مصراعيها، فيتأمل كل ما تقع عينه عليه، لعله يجد الإجابة الشافية لسؤال بات يقلقه ويقض مضجعه، غير انه كان يخرج من الغرفة بالضبط كما يدخل اليها.. اقل معرفة واكثر جهلا.. "اه لو اعرف سر بابك المغلق يا عمتي الجميلة"، كان يقول في نفسه، وهو يرسل نظرة آملة مستطلعة، الى الصورة الوحيدة التي علقتها في غرفته: صورة السيدة العذراء. في احد الايام تمعن ركاد في ماسك مفاتيح عمته، فلفتت نظره ايقونة ليسوع الناصرى، كان يبدو فيها.. في اطيب.. وارق منظر. حاول ركاد ان يربط فيما بين ما رآه في غرفتها وبين مفاتيحها، الا انه لم يخرج بأية نتيجة، فهو يعرف ان عمته امرأة متدينة وانها تتردد كل يوم احد على كنيسة المدينة، لتؤدي واجباتها الدينية كاملة وغير منقوصة.
مضت الايام.. وكان ركاد كلما نسي سر عمته، او انسته اياه الليالي والمشاغل، عاد يلح عليه، الى ان تعرف على ابنة الجيران، وراح يواعدها سرا.. بعيدا عن عيون الناس، وكان كثيرا ما يلتقي بها بسرعة ويفترق عنها بسرعة اكبر. في لحظة الصفر من احد لقاءاته بمن اختارها قلبه، ما ان رفع راسه في محاولة لاستطلاع الاجواء، حتى رأى عمته نعيمة فوق راسه بالضبط. احمر وجهه واحتار فيما عساه يقول لها، الا أنها اراحته من الإحراج والعناء، ومضت في طريقها باتجاه البيت في اعماق البلدة القديمة.
تعمد ركاد ان يتأخر في العودة الى بيته، ودخله متسللا على رؤوس اصابعه تجنبا لعمته، غير انه رآها على غير عادتها وقد اتخذت مقعدها في غرفة الاستقبال، حاول ان يتجاهل الموقف، مثلما فعل في مواقف محرجة نوعا ما وقعت له في السابق، وفوجئ بها اكثر تجاهلا منه، لماذا هي جلست هناك على غير عادتها"، سال نفسه وهو يغرق في بحر حيرته.
مضت الايام تغذ انطلاقتها الى المجهول، الى ان المت وعكة صحية خفيفة بالعمة نعيمة، ما لبثت ان اشتدت عليها الامر الذي دفع والديه، لنقلها الى مستشفى" ملائكة الرحمة" في المدينة، وكان ركاد يزور عمته نعيمة يوميا وعلى مدار الساعة تقريبا، فقد وجد نفسه يتعلق بها كما لم يتعلق بإنسان آخر، وبدا خوفه عليها واضحا، فبذل كل ما في جهده لان يخفف عنها، وفي ان يساعدها في الابلال من مرضها، وجاءت النتيجة الطيبة، شفيت العمة نعيمة وعادت الى غرفتها، غير انها لم تعد قوية كما كانت، وبدا الهزال عليها واضحا جليا، فبدت اكبر من عمرها بعشرة اعوام، كأنما هي في الثمانين. بعد عودتها هذه شعر ركاد بتغير طفيف في توجهها نحوه، بل انه احس في احدى جلساته اليها، انها ستكشف له سرها وستفتح امامه باب غرفتها المقفل، غير ان ظنه خاب.
في احدى الليالي الطويلة شعر ركاد بحركة غريبة وغير مألوفة في غرفة عمته نعيمة، فاقترب من باب الغرفة متسللا على رؤوس اصابعه، ليرى عمته وقد جثت امام صورة العذراء النصراوية.. وراحت تناجيها بكلمات هيمن عليها الغموض، بالكاد فهم منها انها تطلب المغفرة لكل الخُطاة في العالم. اثار هذا المشهد مشاعر ركاد الخفية نحو عمته، فدخل غرفتها وجثا الى جانبها على ركبتيه، ضاما ضراعته الى ضراعتها، ومبتهلا الى العذراء طالبا منها انقاذ خُطاة العالم.
ارسل ركاد نظرة مستطلعة الى وجه عمته، فشعر بشبح اشبه ما يكون بشبح الموت يتلبس وجهها، شعر بنوع من الرهبة، غير انه لم يستسلم لمشاعره، بل ان دمعة لمعت في عينيه. بادلته عمته النظر:
-هل تذكر يوم رأيتك فجأة مع تلك الفتاة؟
- اذكر يا عمتي.. اذكر.
-اما زلت على علاقة بها؟
-طبعا يا عمتي.. ما زلت على علاقة بها. لكن لماذا تسالينني؟
طفرت دمعة من عيني العمة: "اعتقدت انك قطعت علاقتك بها". وربتت على كتفه مضيفة: "لا اريدك ان تعبث بمشاعر بنات الحارة، فلهن قلوب تشعر وتحس".
اقترب ركاد من عمته أكثر فأكثر. انتابه شعور شديد بأنه على حافة سرها العظيم يقف، احتضنها بقوة سبعين عاما من الاهتمام والمحبة المضمرة. شعور طاغ انتابه انه انما يحتضن من اختارها قلبه، ابنة الجيران بالتحديد. واندمج الاثنان ركاد وعمته اول مرة.. اندماج من عرف سرا اقلقه طوال ايام حياته.
من هنا وهناك
-
ركن أبي إسلام | قصة قصيرة بقلم : محمد سليم أنقر مصاروة
-
قصة بعنوان ‘الخوف ان تفرغ البلاد من أهاليها‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة
-
‘ لقد أحببت الهاوية كثيرًا ‘ - بقلم : رانية مرجية
-
‘يُقْلِقُنِي فِي هَذهِ الأيّام ‘ - بقلم : الشاعر كمال إبراهيم
-
قصة بعنوان ‘الهروب العكسي‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة
-
قصيدة ‘من بعدِهَا القلب لا يصبو إلى أحد‘ - بقلم : الدكتور حاتم جوعية
-
همساتٌ إيمانيّة - بقلم : معين أبو عبيد
-
‘ حكايةُ لنا وطفلها ‘ - بقلم : أسامة شيخ علي
-
‘ الدِّيك وابن الحرام ‘ - قصة بقلم : سعيد نفاع
-
معهد أبي اسلام للتفوق | قصة بقلم: محمد سليم أنقر - الطيبة
أرسل خبرا