
أو "شرف البداية " بلقاء الرئيس الأمريكيّ وذلك نظرًا للعلاقات السياسيّة الخاصّة والمميّزة تاريخيًّا بين البلدين عامّة، والعلاقات الشخصيّة الخاصّة والتقارب الفكريّ ومن حيث المواقف ، وربما تقاطع المصالح بين نتنياهو وترامب، كما اتضح خلال الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، ورغم الغضب الذي أبداه الاخير لإسراع نتنياهو عام 2020 إلى تهنئة الرئيس الأمريكيّ السابق جو بايدن بفوزه بالرئاسة، إلا أن الزيارة الحاليّة لرئيس الوزراء إلى واشنطن والتي انتهت مراسمها الرسميّة، وقبل أن تتكشّف كواليسها الكاملة، وما دار فيها خلف الأبواب المغلقة، وعادة ما تكون مختلفة عن " البروتوكولات الظاهرة لها" التي تتسم بالترحاب والترحيب والابتسامات التي يحتمها البروتوكول الدبلوماسيّ، وهو ما اتّضح منذ لحظاتها الأولى خاصّة في قضية استمرار وقف إطلاق النار في غزة، حيث قال الرئيس ترامب في تصريح علنيّ إنه لا يمكن ضمان ذلك، بينما أعلن موفده إلى الشرق الأوسط ستيف ووتكوف في ختام لقاء دار مع نتنياهو مساء الإثنين واستمر 5 ساعات، أن وقف إطلاق النار سوف يستمرّ، وأن بلاده ستعمل على إنهاء الحرب في القطاع عبر تداخل وتدخّل أعمق وأكثر كثافة في سيرورة الاتفاق وسبل وملابسات تنفيذه، تتّسم بحكم الظروف بأهميّة خاصّة على ضوء التكهّنات المتشعّبة حول ما سيتمّ بحثه خلالها والنتائج المترتبة عليها ، وليس التصريحات الرسميّة " البروتوكوليّة والدبلوماسيّة" لحلّها، أو بكلمات أبسط بسبب التوقّعات عالية السقف والمتشعّبة، بل المتناقضة التي يتم تعليقها على هذه الزيارة، ومواضيعها بدءًا من تلك الإقليميّة، وأقصد الحرب في غزة والنوويّ الإيرانيّ والاتفاق بين إسرائيل ولبنان (وعلاقة إيران به) والتطبيع مع السعوديّة والوضع في سوريا في ظلّ حكم أحمد الشرع الذي رحّبت به أمريكا، وتحفّظت منه إسرائيل مع تزامن اللقاء مساء الثلاثاء بين ترامب ونتنياهو ولقاء في تركيا بين رجب طيب أردوغان الرئيس التركي وأحمد الشرع رشحت عنه معلومات حول ترتيبات واتفاقات وتوافقات استراتيجيّة بين الطرفين لن ترضي إسرائيل، وخاصّة تلك المتعلّقة بقضايا تعتبرها الولايات المتحدة أولويّات كبيرة وفي مقدّمتها العلاقات مع الصين، ورغبة ترامب في كبح جماح التوسّع الصينيّ الاقتصاديّ خاصّة في آسيا وأفريقيا وكذلك إسرائيل وكلّنا نذكر موقف الولايات المتحدة من إدارة شركات صينيّة لموانئ خاصّة في إسرائيل، حتى أنه يمكن القول وعلى وزن العبارة الشائعة" تعدّدت الأسباب والموت واحد" إنه تعدّدت واختلفت وتناقضت التوقّعات والزيارة واحدة...
" تفاوت التوقعات "
" تفاوت التوقعات "
ورغم اختلاف القضايا والمواضيع وتفاوت التوقّعات وربما تضارب الآمال المعقودة على هذه الزيارة باختلاف موقع أصحابها ومنطلقاتهم، فإن النتيجة النهائيّة عند اتّضاحها، ربما بعد فترة ما ستؤكّد ما إذا كانت العلاقات بين إسرائيل ونتائج الاتصالات بينهما ولقاءات زعمائهما، في أمريكا ما زالت تسير وفق المعادلة القديمة ونصفها الأول أن الولايات المتحدة ترى في منطقة الشرق الأوسط غير إسرائيل، وأن ذلك يصل حدّ "العمى الذاتيّ" أي عدم رؤية الولايات المتحدة نفسها، وتفضيل مصالح إسرائيل على مصالحها هي، وهو ما برز خاصّة في العام الأخير ومنذ السابع من أكتوبر عام 2023، ومواقف إدارة بايدن التي رأت في المنطقة عامّة والحرب في غزة خاصّة مصالح إسرائيل ورغبات وربما نزاوت حكومتها اليمينيّة الحاليّة، وفتحت مخازن أسلحتها وأبواب خزينتها الماليّة على مصراعيها أمام إسرائيل، رغم إدراكها أن ذلك يمسّ بمصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وليس ذلك فقط ، بل رغم إدراكها أنه يمسّ بمصالح بايدن وحزبه وإدارته وربما كلف المرشحة الديمقراطيّة كامالا هاريس خسارة السباق الرئاسيّ بعد عزوف المصوّتين الأسبان والمسلمين عن دعمها احتجاًجًا على ما سبق. أما نصفها الثاني فهو أن إسرائيل لا ترى في العالم غير أمريكا، وبالتالي لا تعير اهتمامًا لأحد سواها، وهو ما اتّضح مع بداية عهد ترامب وقبول نتنياهو وقف إطلاق النار، وصفقة تبادل الرهائن، والتي رفضها بنفس الصيغة خلال عهد إدارة بايدن، في تطوّر معناه الواضح أن مصالح ورغبات وتوجّهات الإدارة الأمريكيّة عادت لتكون مسموعة ومقنعة بل مطاعة، لدى إسرائيل، ومن هنا أهميّة الزيارة، فهي ونظرًا للظروف التي تحيط بها، تعني أن نتائجها مهما كانت، فإنها وبفعل المواقف الأمريكيّة والتي تحاول إسرائيل جعلها مواتية وملائمة لما تريده، ستكون حاسمة في قضايا عديدة منها ما إذا كانت الحكومة ستعود إلى الحرب، كما يريد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو ما يضمن استمرار الائتلاف الحاليّ، أو أنها ستواصل صفقة تبادل الرهائن ووقف إطلاق النار وهو ما يشكل استجابة للمصالح الأمريكيّة التي تعتبر الهدوء في غزة مقدّمة لإمكانيّة تطبيع مع السعوديّة وتشكيل تحالف عربيّ إقليميّ مضادّ لإيران، ما قد يؤدّي إلى انهيار الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، لا يريدها نتنياهو. ومن هنا عليه الاختيار بين دونالد وبتسلئيل، أو بين مصلحة أمريكا وإسرائيل من جهة واحدة وبين مصلحة ائتلافه من جهة أخرى، فإدارة ترامب تريد إنهاء الحرب في غزة، والانخراط في المفاوضات بشكل أعمق، بلقاءات وجولات مكوكيّة، لأن هدفها النهائيّ هو "السلام الأوسع" خاصّة مع السعودية وتوسيع إطار اتفاقيّات أبراهام، وهو النقيض ربما للمقترحات التي سلّمها سموتريتش لنتنياهو قبيل اعتلاء سلّم الطائرة متّجهًا إلى واشنطن وتشمل استئناف الحرب، ووقف صفقة التبادل وتهجير أهالي غزة إلى خارج أرضهم وتحديدًا إلى مصر والأردن، وممارسة الضغط على السعوديّة لتوقيع اتفاقيّة تطبيع مع إسرائيل رغم التهجير ، وشنّ ضربة عسكريّة ضد إيران. وهي أهداف ربما تتناسب مع ما يريده نتنياهو في قرارة نفسه، فهو يمني النفس بأن تسمح أمريكا بمواصلة الحرب ، وأن تقبل السعوديّة رغم ذلك بتطبيع معها، وهو ما يبدو أن أمريكا لن تقبل به ولا السعوديّة التي أعلنت أن التطبيع منوط بخلق ظروف وضمانات لإقامة كيان فلسطينيّ، وفي هذا السياق فإن هذه الزيارة ستؤدي إلى إيضاح الصورة حول التنازلات التي يتحتّم على الجميع بمن فيهم نتنياهو لتحقيق وتنفيذ السياسات الأمريكيّة.
" لا وجبات مجانية "
" لا وجبات مجانية "
ما سبق هو عرف أمريكيّ واضح يلخّصه القول السائد أن لا وجبات مجانيّة، أو أن "الغداء لا يقدم مجانًا"- أو أن لا شيء يأتي مجانًا، وهذا ربما هو واحد من الأمور التي ستتضح قريبًا، جراء التناقض الطبيعيّ بين شخصيتي الزعيمين، فنتنياهو هو ذلك الزعيم الذي يصفه العارفون بأنه " بارع في التأجيل والتسويف والمماطلة، وتأجيل ما يمكن من القضايا إلى أجل غير مسمى"، مقابل ترامب رجل الأعمال الذي يريد النتائج فورًا بل عدًّا ونقدًا، وهذا ما اتضح من سلسلة الأوامر التنفيذيّة التي وقّعها ضد كندا والصين والمكسيك وغواتيمالا وغيرها، بمعنى أنه لا ينتظر ولن ينتظر سداد نتنياهو دينه جراء أي تنازل، أو مساعدة سيقدّمها له، تمامًا كما كان الحال مع أوكرانيا التي قال ترامب إنه يريد اتفاقًا معها تتعهّد فيه بمنح الولايات المتحدة معادنها النادرة، أي تلك المواد الأوليّة التي تستخدم على نطاق واسع في الإلكترونيّات، " مقابل حصولها على مساعدات أمريكيّة"، بمعنى أن تقييم ثمن هذه العلاقة بين ترامب الرئيس الأمريكيّ، وأي زعيم آخر يعتمد على نفس منطق الصفقات التجاريّة المستمد من خبرة ترامب في مجال الأعمال، ومن هنا جاءت ربما خطوة نتنياهو وإعلانه عن ارسال الفريق الاسرائيليّ المفاوض إلى الدوحة لمواصلة المناقشات، بعد إعلانه نفسه عن تأجيل إرسال الوفد وربما تغيير تشكيلته، على شاكلة دفعة أولى على الحساب أو سلفة مسبقة، فهو أي نتنياهو، الخبير في الشؤون الأمريكيّة يعرف أكثر من غيره، أن أمريكا تجيد التدليل والمداعبة، لكنها تجيد أكثر كسر العناق والضغط على مواجع الألم والنقاط والمواضع الأكثر إيلامًا. وهو ما حدث في قضية صفقة التبادل، والتي استطاع فيها ترامب لي ذراع نتنياهو عبر ضغط غير مسبوق من مبعوثه ويتكوف وإعلان رسميّ عنها في واشنطن قبل الإعلان عنها في إسرائيل، وليس ذلك فحسب، بل إن ترامب استطاع أن ينسب الصفقة لنفسه حتى قبل دخوله البيت الأبيض.
جاءت الزيارة في فترة يعاني نتنياهو فيها أوضاعًا غير مريحة، فائتلافه تقلّص بعد استقالة إيتمار بن غفير وحزبه، وسط تهديدات من سموتريتش بإنهاء عمر الائتلاف، إذا لم تعد إسرائيل إلى الحرب وهو حالة تبدو اليوم مستحيلة، وعلى الأقل مستبعدة بعد عودة نحو مليون غزي الى شمال القطاع وإعلان ترامب أنه يريد إنهاء الحرب واتصالات بين مبعوثه ويتكوف والقيادة السعوديّة، ومع مندوبي السلطة الفلسطينيّة لأول مرة منذ نحو عقد من الزمن، تضاف إليها تهديدات من أحزاب المتديّنين وخاصة حزب" شاس" بترك الائتلاف والتسبّب بانتخابات مبكرة إذا لم يتم إقرار قانون جديد للتجنيد ينصّ على إعفاء المتديّنين المتزمّتين (الحريديم) بشكل تامّ وتلقائيّ من الخدمة العسكريّة وهو ما يعارضه سموتريتش، وتهديد آخر يتعلّق بميزانيّة الدولة للعام القادم، إضافة إلى استمرار محاكمته وسط وضع صحيّ سيء يثير لدى الكثيرين الأسئلة حول مدى أهليّته لمواصلة تولي السلطة، وقبل كل ذلك ووفق كافّة الاستطلاعات، دون أن يتمكن من تحقيق النصر المطلق الذي رفعه شعارًا منذ بداية الحرب في غزة والإصرار على استلام محور فيلادلفيا باعتباره الجزء الأهمّ في هذا النصر، ليجد نفسه اليوم في حالة تم فيها وقف إطلاق النار دون تحقيق النصر، أو بكلمات أصح دون تحويل النصر العسكريّ الواضح الذي حقّقه الجيش الإسرائيليّ على حركة "حماس" إلى إنجازات سياسيّة ودبلوماسيّة، فهو الذي رفض طرح أيّ مقترحات لليوم التالي، أو لفترة ما بعد الحرب، كما رفض أي دور للسلطة الفلسطينيّة. وهي نفسها التي يدير ممثلها اليوم أجزاء من معبر رفح ، ويتولّى أمورًا أخرى، ناهيك عن البوادر التي تؤكد أن الحديث عن إبادة "حماس" وتحطيم قدراتها العسكريّة والسلطويّة كان سابقًا لأوانه خاصّة على ضوء الصور والمظاهر التي رافقت مراحل صفقة تبادل الرهائن والمختطفين، وهو الحال نفسه في الشمال فلا نصر مطلق على "حزب الله" ولا تجريد له من سلاحه أو قدراته العسكريّة، ولا عودة حتى الآن للإسرائيليّين الذين غادروا بيوتهم في الشمال والجنوب منذ أكثر من عام، وأكثر من ذلك حيث قبل نتنياهو اليوم ما كان يرفضه طيلة سنوات، وهي فكرة التهجير والترحيل أو الترانسفير، التي كانت نهجًا اقترحه بعض الهاذين من اليمين الكهانيّ المتطرّف، ليصبح اليوم فكرة يتبناها نتنياهو ويحاول، وربما نجح حاليًّا على الأقل كما اتضح خلال المؤتمر الصحفيّ الذي تلا اللقاء الثنائيّ في البيت الأبيض مساء الثلاثاء، إقناع الولايات المتحدة بتطبيقها وسط رفض قاطع من الدول العربيّة خاصّة الأردن التي يشكّل الفلسطينيّون قرابة ثلثيها ومصر التي تعاني أوضاعًا اقتصاديّة مأساويّة، ولا تكاد توفر قوت يوم مواطنيها الذين يزداد عددهم ويسوء وضعهم يوميًّا، ولا مبّرر يقنعها بزيادة هذا التدهور، ورد سعوديّ اماراتي يؤكد أنه لا تنازل عن مطلب إقامة كيان فلسطينيّ أو دولة فلسطينيّة كمقدّمة للعلاقات السعوديّة مع إسرائيل وفق البيان، ورفض فلسطينيّ.
" الغرف المغلقة "
" الغرف المغلقة "
وخلافًا للعرف السائد من أن القرارات السياسيّة الحقيقيّة تتخذ في الغرف المغلقة، وليس بتصريحات علنيّة في المؤتمرات الصحفيّة، أو قبل اللقاءات الرسميّة، جاءت التحليلات السريعة لما قاله ترامب حول قطاع غزة، وتحديدًا ما قاله حول إمكانية "فعل شيء جيّد" وبكلماته:" إذا نجحنا في فعل شيء جيّد لهم، فلماذا سيريدون العودة.. لم يعد هناك شيء سوى الخراب والدمار"، دون أن يؤكّد أن لا مكان لعودتهم إذا ما وافقوا على الترحيل، وتراوحت بين تفسيرات إسرائيليّة وخاصة في المحافل القريبة من اليمين الإسرائيليّ وأبواق الإعلام اليمينيّ والاستيطانيّ، والتي فسّرها اليمين على أنها موقف أمريكي يتيح إعادة الاستيطان اليهوديّ هناك، ما أكد ترامب أنه لن يحدث، وربما ضمّ غزة وبعدها الضفة الغربيّة إلى إسرائيل، خاصّة وأن ترامب قال إنه سيعلن الشهر القادم موقفه من ذلك، والموعد هنا ليس صدفة، فهو سيلتقي خلال الأسابيع القادمة الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسيّ، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وهما صاحبا الشأن المباشر بقطاع غزة والضفة الغربيّة وبضمنها شرقي القدس والحرم القدسيّ الشريف، ما يعني أن مواقف ترامب ، بشخصيّته المعروفة وتصريحاته التي لا يبالي في التراجع عنها، تبقى عرضة للتغيير والتبديل، خاصّة وأنه عادة ما يتحدث بلهجة "آخر من قابله"، وبين القول إن ترامب قال على مسمع من نتنياهو ما أراد هذا سماعه بالضبط، وما يمكِّن ترامب من إبقاء كافّة الإمكانيّات مفتوحة، فهو يريد استمرار صفقة التبادل كما قال ستيف ويتكوف "بكل ثمن" ويريد وقف الحرب ، كما يريد إرضاء السعودية ودفعها إلى اتفاق تطبيع مع إسرائيل، وهو يعرف أن ترحيل الغزيين وعدم إقامة دولة فلسطينيّة سيمنعان حدوث ذلك، لكنه يواصل الحديث عن ذلك ليس بمنطق السياسيّ الذي يفهم صغائر الأمور والعلاقات التاريخيّة بالأرض والوطن، بل بمنطق رجل الأعمال ومقاول العقارات الذي يعتقد أن القضيّة ستحلّ بمجرّد إقامة المساكن الجديدة للغزيين ووعود يقطعها لهم بحياة رغيدة، ويريد ترهيب إيران وطمأنة إسرائيل بأنه معها في الشأن النوويّ الإيرانيّ، دون أن يتطرق إليه مباشرة في كلمته، ودون أن يقبل بالطرح الإسرائيليّ حول ضربة عسكريّة تهدم المنشآت النوويّة الإيرانيّة، بل تطرّق فقط إلى أنه سيدمر إيران إذا ما حاولت اغتياله (ترامب في المكان الأول)، وهو يريد الهدوء والاستقرار في الشرق الأوسط، ليتفرغ للقضايا التي تشغله خاصّة الاقتصاديّة مقابل الصين وغيرها، رغم إدراكه أن قضية التهجير تعيد المنطقة إلى نقطة الاقتراب من الانفجار وهذا لا يخدم مصالحه، ويبدو فوق كل ذلك أن غضبه على نتنياهو لم يصل بعد حدّ الرغبة في تغيير الحكومة في إسرائيل، وباختصار فهو يحاول" تربيع الدائرة" وتحقيق إنجازات في قضايا متضاربة ومتناقضة، ما يثير السؤال حول ما إذا كان ترامب رئيس يحلم، أو ربما يتخيّل أن بإمكانه صنع المعجزات، أو أنه رئيس ثوريّ سيغير العالم كلّه عامّة والشرق الأوسط خاصّة، وربما يحاول السير على خطى سلفه باراك أوباما الذي اعتقد أنه غيَّر الشرق الأوسط بتسبّبه في تنحي الرئيس المصريّ الأسبق حسني مبارك واعتلاء محمد مرسي السلطة، وحصل على جائزة نوبل للسلام، ليتضح أن ثوريّته وتغييره كان وبالًا على المنطقة، وأن الربيع العربيّ الذي أراده أوباما، كان خريفًا أحرق الأخضر واليابس.
على كل حال، سياسات ترامب وزيارة نتنياهو إلى البيت الأبيض والتي يعتبرها اليمين الإسرائيليّ إنجازًا ضخمًا دفع بوزير الأمن القوميّ المستقيل إيتمار بن غفير الى الاحتفال والاحتفاء، والإعلان أن تصريحات ترامب تجعل عودته إلى الحكومة قريبة، وهو ربما ما يريده نتنياهو والذي احتفظ بالحقائب الوزاريّة التي شغلها وزراء بن غفير، ولم يعيِّن وزراء دائمين بدلًا منهم، تشمل البدايات والنهايات ، فهي بنتائجها التي ستظهر لاحقًا ومخرجاتها التي ستتضح صورتها بعد لقاءات ترامب قادة الأردن ومصر والسعوديّة، صاحبة الاستثمارات العملاقة في الولايات المتحدة، قد تكون بداية مرحلة جديدة في الشرق الاوسط تتولى فيها السلطة الفلسطينيّة مسؤوليّة إدارة قطاع غزة بالتعاون مع دول عربيّة وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، ما سيفتح الباب على مصراعيه أمام تطبيع مع السعوديّة يضمن كيانًا للفلسطينيّين، وسلاما كاملا وتامّا في الشرق الأوسط. وهي بداية تعني نهاية أحلام اليمين الإسرائيليّ بضمّ الضفة الغربيّة وقطاع غزة ومنع قيام كيان فلسطينيّ وصولًا إلى أرض إسرائيل الكبرى، وهي في نفس الوقت قد تكون بداية لسياسة أمريكيّة تتبنى المواقف اليمينيّة المتطرّفة الإسرائيليّة، تعتبر الضفة الغربية كما أراد ترامب في ولايته الأولى، أو تحديدًا سفيره في إسرائيل ديفيد فريدمان، جزءًا من إسرائيل وكذلك هضبة الجولان والقدس في عرف ترامب نفسه. وبالتالي سيكون حلّها للقضيّة الفلسطينيّة تهجير الغزيين من القطاع دون حلٍّ لنحو مليوني فلسطيني في الضفة الغربيّة، وإقناع السعوديّة بالقبول بالتطبيع، وهذا سيكون نهاية أيّ حلم فلسطينيّ بحلّ للقضيّة الفلسطينيّة يضمن كيانًا أيًاّ كان وصفه، بل إزالة القضيّة الفلسطينيّة من جدول الاهتمام العالميّ والعربيّ، ووضعها على الرفّ إلى أجل غير مسمى، رغم ما سيحمله ذلك من توتّرات وعدم استقرار قد يطال إسرائيل ودولًا مجاورة منها الأردن ولبنان.
" غير المتوقع "
" غير المتوقع "
ختامًا: مع التأكيد مرّة أخرى على ترامب "غير المتوقع" والذي يمكنه في جملة واحدة أن يقول الشيء وضده، يتضح أن الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر 2023، لم يعد كما كان قبله، وربما لن يعود كما كان قبله، وأن المستقبل قد يحمل في طيّاته تطورات تسدل الستار على تطلّعات كثيرين من الإسرائيليّين والفلسطينيّين ، وهي تطوّرات سببها الوحيد ونقطة إطلاقها أحداث وهجمات السابع من أكتوبر، فهل سيتضح للفلسطينيّين ، ربما بعد فوات الأوان أن النصر الذي ادعته "حماس" كلّفهم وأد حلمهم بالحريّة والاستقلال والكيان المستقلّ، وقضى على أي إمكانية لإعادة الشأن الفلسطينيّ إلى واجهة اهتمام الدول؟ أم سيتضح لليمين الإسرائيليّ الاستيطانيّ أن النصر الذي أرادوه على "حماس" وما رافق الحرب في غزة، وأد حلمهم ربما بأرض إسرائيل الكبرى، وأعاد الشأن الفلسطينيّ إلى الواجهة، وجعل حلّ القضيّة الفلسطينيّة الثمن الذي ستدفعه إسرائيل مقابل التطبيع مع السعوديّة؟؟ أم أن الشرق الأوسط وربما بجيرة أهله وحكامه وتعنتهم ورفضهم قراءة الرسائل التاريخيّة، سيبقى عصيًّا على الاستقرار والهدوء، على الأقلّ حتى نهاية ولاية ترامب الحاليّة، ليبقى السلام حلمًا بعيد المنال.. هذا ما سيتضح قريبًا وربما قريبًا جدًّا. والجميع بانتظار " الزعيم ترامب" وربما تحت رحمة ترامب!
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il