logo

يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - أنطوان كندورة

13-12-2024 08:11:37 اخر تحديث: 13-12-2024 08:22:37

في حياتنا هناك حدث ما يكون فاصلًا وقويًا ومؤثرًا لأنك بعدها تنظر إلى الأمور بزاوية مختلفة ليس كسابق عهدك بالأشخاص والأماكن، التقيت أنطوان كندورة في أحدى مدن أوروبا، كان شابًا، لا بد أنه جاوز منتصف الستين في هذه الأيام،

يوسف أبو جعفر - صورة شخصية

مليئًا بالأدب والخلق، لهجته السورية تدل على كل شيء على أدبه وأخلاقه، شربنا القهوة وتجاذبنا اطراف الحديث حول بلده، كان هادئًا لا يتكلم إلا قليلًا، يحب الصمت، كلينا نتعلم في نفس المعهد.

كان قليل المعرفة حول فلسطينيي عام 48، عرفت من اسمه انه مسيحي، بالمقابل كنت أحب أن أسمع كل شيء عن الشام، جبالها جمالها، كان فنانًا التحق بمعهد الفنون يرسم في اكثر أوقاته، وفي يوم الأحد المعهود خرجنا بعد الظهر لنشاهد سوقًا شعبيًا، كان يعج بالناس والطعام والشراب والضحكات في كل زواياه، وفي المنتصف كان هناك صاحب لعبة رماية بالبندقية، كان الناس يصطفون كلٌ يحاول إصابة الهدف ومن يفعل تقوم كاميرا بتصويره ويحصل على هدية من صاحب الحانوت، كل محاولاتي للطلقات العشر ذهبت هباءً كمثل غيري فالهدف صغير جدًا، كان أنطوان يبتسم وهو يحاول أن يشرح سبب بعدي عن الهدف فقلت له بالعامية " وريني شطارتك " فأخذ البندقية وأطلق الرصاصة إلى الهدف فأضاء المكان فلاش الكاميرا ، ثم الثانية والثالثة فبدأ صاحب المحل بالحديث القريب من الصراخ، كانت لغتنا الإيطالية ضعيفة وفهمنا أنه يطلب أن نتوقف لأن أنطوان لن يُبقي في حانوته الصغير شيئا.

فعلًا لا اذكر إذا اخذنا هدية، لكني سألت أنطوان كيف لك هذه المهارة يا صديق، قال لي اسمع قصتي، أنا هارب من وطني، لقد كنت في الخدمة العسكرية وكلنا نتدرب بطبيعة الحال على إطلاق النار، قلت هارب من بلد العروبة والقومية، بئس الرجل انت يا أنطوان، قال لو شاهدت ما رأيته ما كنّت لتبقى، لقد شاهدت بأم عيني - وهنا بدأ بالبكاء - كيف يهان المسيحي قبل المسلم لمجرد أن له لحية، لقد شاهدت بأم عيني كيف يقصف بالمدافع الأطفال داخل المسجد لمجرد هروبهم من حاجز جيش، لقد شاهدت تدمير وقتل الناس المسلمين والمجازر في حماة، وكيف دمرت فوق رؤوس الناس البيوت والعمارات فقط لاعتراضهم على الحكم أو اختلافهم مع الحاكم، لقد ادركت أن الشعارات ما هي إلا كلمات فقط للاستهلاك كي يستمر الحكم.

في تلك الليلة عادت إليَّ روايات أنطوان الكثيرة التي لم أكتب منها إلا القليل، في تلك الليلة بدأت ابحث عن الحقيقة، أدركت أن لدينا عيون لا ترى وآذان لا تسمع وأنوف لا تشم، أدركت أن طغاة الأرض يمتلكون الوسائل لتصدير الحقائق كما يريدونها وسيصفق لهم الكثير من النرجسيين والمتعلمين والمنافقين وشيوخ السلاطين ويقسمون بالله أنه خليفة الله في أرضه وربما المهدي المنتظر، يومها أدركت أهم شيء أن معادلات القوة والمصلحة هي التي تُسير الظلم في هذا الزمن والظالمين شركاء ولا يهم في  أي معسكر هم أكان شرقيًا أم غربيًا، كل الظالمين ومن يدعمهم سواسية ويتبعون ملة واحدة بغض النظر عن موقعهم أو معسكرهم.

لا أعلم أين أنطوان اليوم، رغم أننا تواصلنا بالرسائل لفترة قصيرة، ولكنه كان حاضرًا هذا الأسبوع، كان معي يحدثني يخبرني بكل تفاصيل الظلم والقهر والهجرة والهروب، قبل الصراعات الأخيرة، اخبرني أن قيمة العدل معدومة في الشرق، اخبرني أننا نحب الظلم  تحت مسميات كثيرة، اخبرني أننا نعطي الظلم كل التفاسير لكي يستمر، اخبرني أن الحرية لها ثمن واخبرني أن لا شيء يحدث لوحدة، لا بد لحبة رملٍ أن تتدحرج حتى ينهار الجبل.

وحتى نلتقي، وددت لو استطيع لقاء أنطوان كندورة لاقول له عد آمنًا إلى حماة، واخبر الجميع أننا بشكل أو آخر ما زلنا نعيش الخوف والقلق لكثرة الظلم وأننا نحلم بالحرية ولكن قلة تعمل لها، أخبره أن لا شيء تغير وأن هامش الحرية داخل عقولنا ما زال هنا  ولكننا  نخاف الدخول إليه، أخبره أنه كان سببًا في زيادة مساحة الحرية في داخلي، أني أذكره حتى نلتقي.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il