logo

المحامي زكي كمال يكتب : الكذب والبهتان في تقييم أطراف الحرب - ‘حزب الله‘ و‘حماس‘ و‘إسرائيل‘

06-12-2024 06:19:44 اخر تحديث: 06-12-2024 06:34:34

وهو بالكاد ينهي أسبوعه الأوّل، بات واضحًا أن وقف اطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ الأسبوع الماضي بين إسرائيل ولبنان، وهو في الحقيقة وقف لإطلاق النار المباشر بين إسرائيل وحركة "حزب الله"، وعلى ضوء الخروقات التي يشهدها،

 المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت

 والتي دفعت بالولايات المتحدة الراعي الأوّل للاتّفاق إلى التحذير من انهياره والتصريح بأن إسرائيل تمارس لعبة خطيرة عبر عشرات الخروقات يوميًّا ومهاجمة أهداف في لبنان. ودفعت بفرنسا وهي التي أصبحت بقدرة قادر، الراعي الثاني للاتفاق بعد فترة اعتبرتها فيها إسرائيل منحازة للبنانيّين، وربما "حماس" ثمّ تغير حالها بعد تغيُّر موقفها من أوامر الاعتقال ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق المُقال، يوآف غالانت وتراجعها عن إعلان التزامها بها، إلى تحذير إسرائيليّ من مغبّة مواصلة الهجمات، دون الرجوع الى منظومة المراقبة التي على إسرائيل إبلاغها بأيّ ردّ قبل اتخاذه، يصحّ فيها القول أنها وضعيّة غير مفهومة تزيد فيها الأسئلة والتساؤلات بعشرات الأضعاف عن الإجابات الوافية والشافية التي تحترم العقل، ولا تستند إلى تصريحات شعبويّة وصياغات ووعود ضبابيّة، فهي كمثال الجبنة السويسريّة التي ثقوبها (وعيوبها) أكبر من تلك المساحة المُغَّطاة، كما يصحّ فيها القول أن العنوان كان على الحائط، وأنه يثير أسئلة عديدة كانت وستبقى ربما دون إجابات تتعلّق بالطرفين وعلى جانبي الحدود، وتتمحور حول قضايا عديدة ستحدّد ما إذا كان الاتفاق وقفًا لإطلاق النار بشكل حقيقيّ ودائم، أم فرصة لالتقاط الأنفاس ليعاود الطرفان بعدها الحرب بشراسة تفوق ما كان قبلها، أي أنها استراحة المحارب كما تصفها كتب التاريخ والفروسيّة والحروب، والتي بعدها يتمّ استئناف الحرب بضراوة أكبر، إضافة إلى أن هذا الاتفاق ومن طرفيه اللبنانيّ والإسرائيليّ، يشكّل المثال الحيّ والمؤلم والوصف الحقيقيّ لتلك السياسات والقرارات التي تتعدّد وتتكرّر في منطقتنا والعالم، والتي يحلو للمدافعين عنها، أو الأبواق التي تنبري لتبرير تسميتها "الواقعية السياسية"، رغم بعدها عن مفاهيم تيار الفلسفة السياسية الواقعيّة ممثّلًا بفلسفة أرسطو السياسيّة، والذي قلّ انتشاره في السياسة الدوليّة، ما يجعل هذا الوصف لا يتعدّى كونه شرعنة مسبقة لكل تصرّف، وكل قرار مهما كانت طبيعة القرار السياسيّ المتّخذ، وفي مصلحة من يصبّ هذا القرار، وكيف ولماذا تمّ اتّخاذه. وهو بالضبط ما حدث هذه المرّة بما يتعلّق بوقف إطلاق النار في لبنان، ومواصلة الحرب في قطاع غزة.

والأسئلة هنا ليست صعبة فحسب، بل إنها كثيرة وكلّها تتعلّق بالاتّفاق الذي يتّفق الجميع على أمر واحد حوله وهو أنه يوفر الراحة لكلا الجانبين، ممّا يمنح الحكومة الإسرائيليّة إمكانيّة التباهي بأنها حقّقت النصر على حركة "حزب الله" سواء ذلك النصر المُطلق الذي رفعه نتنياهو وموالوه شعارًا لهم منذ بداية الحرب في غزة بعد هجمات السابع من أكتوبر 2023، أو مجرّد النصر، كما يتيح للجيش الاسرائيليّ، رغم تفوقه التامّ من حيث العتاد والمعدّات إمكانيّة الراحة وتخفيف العبء عن جنوده خاصّة على ضوء تضاؤل أعداد الجنود النظاميّين وأولئك في خدمة الاحتياط على خلفيّة استمرار رفض اليهود الحريديم الخدمة العسكريّة، واستمرار السعي الحثيث للحكومة لمنحهم الإعفاء الجارف، في مثال معوّج آخر "للواقعيّة السياسيّة" المتّبعة في أيّامنا والتي تبيح المحظورات والأخطاء والخطايا السياسيّة باعتبارها ما يحتاجه السياسيّ في تلك اللحظة، كما أنه اتّفاق يتيح لحركة "حزب الله" لملمة جراحها ومحاولة استعادة قوّتها والتقاط أنفاسها، وربما العودة إلى مناطق كانت انسحبت منها بعد الاجتياح الإسرائيليّ البري في لبنان، كما أنه يسمح لقادة "حزب الله" بالتفاخر بالنصر والمقاومة والتمسّك بأرضهم، وذلك رغم الخسائر البشريّة والمعنويّة، وتدمير البنى التحتية في لبنان من شماله حتى جنوبه، بمعنى هل سينهي الاتفاق القتال الذي دام أكثر من عام عبر الحدود، وأسفر عن مقتل نحو أربعة آلاف لبنانيّ معظمهم من المدنيّين وتهجير، أو نزوح أكثر من مليون مواطن لبنانيّ من الجنوب، ومقابله نحو مئة ألف إسرائيليّ اضطرّوا للنزوح والمغادرة، دون أن تتضح مواعيد عودتهم، أو إمكانيّة عودتهم إطلاقًا إضافة إلى أسئلة حول الأضرار بعيدة المدى التي لحقت بإسرائيل، وهل سيستطيع حزب الله إعادة التسلّح، ومتى وهل سيعود الإسرائيليّون واللبنانيّون إلى ديارهم؟.

" قوة لا يستهان بها "
إضافة إلى كون الأسئلة حول دوافع الطرفين الإسرائيليّ واللبنانيّ وخاصّة "حزب الله" لتوقيع الاتفاق كثيرة ، وكلّها أسباب كانت معروفة مسبقًا ، تؤكّدها تجارب الماضي حول عدم إمكانيّة إخضاع حركة "حزب الله" وإبادتها ، كما أعلنت إسرائيل بالنسبة لحركة "حماس" ، خاصّة وأن "حزب الله" وإن كان حركة مسلّحة إلا أنه من الجهة الأخرى جزء من دولة قائمة، حتى لو كانت على حافّة الانهيار والشلل الاقتصاديّ والفراغ الدستوريّ. وهي جزء فاعل في البرلمان والحكومة وقوّة لا يستهان بها تفوق الجيش اللبنانيّ خاصّة في منطقة الجنوب، وبالتالي لا يمكن له العمل، دون أن تتحمّل الدولة بكاملها بما في ذلك عاصمتها تبعات أعماله من جهة، ولا يمكن لإسرائيل أن تتصرّف بحريّة ودون رقيب أو حسيب، ودون حدود كما تفعل في قطاع غزة، خاصّة وأن لبنان تربطه علاقات تاريخيّة مميّزة بفرنسا أوّلًا وبالدول الأوروبيّة عامّة من جهة أخرى. ومن هنا تعرف إسرائيل مسبقًا أن الشرعيّة لنشاطها العسكريّ هناك محدودة، وأن التدخّل الدوليّ سيأتي سريعًا، وبالتالي وعملًا بعنوان رواية مارسيل بروست الشهيرة "البحث عن الزمن الضائع"، وهو الكاتب الذي قرّر الابتعاد عن السياسة، لكنّه تورّط في قضية ضابط الجيش اليهوديّ الكابتن الفريد درايفوس، ودافع عنه بشدّة وطالب بإطلاق سراحه، وهنا يرتبط اسمه ربما دون قصد بأحداث الأسابيع الأخيرة في إسرائيل عبر الوصف الذي أطلقه بنيامين نتنياهو على نفسه، بأنه درايفوس، على خلفيّة التحقيقات مع مقرّبيه والناطق بلسانه على خلفيّة تسريب وتزوير وثائق استخباراتيّة فائقة السرية ، فإن الحديث هنا، أو الاساس في الاتفاق الحاليّ وقبله في الحرب في لبنان، هو ضرورة البحث عن المنطق الضائع الذي يقف وراء الاتفاق، والذي يبدو أنه يُخفي أكثر ممّا يُبدي، وأنه لا يستجيب لأيّ من مطالب الطرفين، فهو يناقض تعهّد "حزب الله" بمواصلة جبهة الإسناد ، كما سمَّاها، حتى تتوقّف الحرب في غزة، وهو ما اتّضح زيفه، بل كذبه ما يثير التساؤلات حول ما إذا كان منذ البداية شعارًا حقيقيًّا، أم مجرّد استغلال لفرصة سنحت استغلّها الحزب لتنفيذ أجندات خارجيّة لا تتعلّق به، ولا تتعلّق بلبنان إطلاقًا، كما أنه يناقض على الإطلاق ما أعلنته إسرائيل من أنها لن توقف الحرب حتى تقضي على قوة "حزب الله" وتُجبر مسلّحيه على العودة إلى ما بعد خطوط نهر الليطانيّ، وتعيد لبنان عشرات السنين إلى الوراء، وأن أيّ وقف لإطلاق النار يجب أن يشمل بنودًا واضحة حول حريّة التحرّك العسكريّ، وضمانا لتنفيذ الاتفاقيّات السابقة التي لم تنفّذ وغير ذلك من الشروط التي اتضح أنها كانت مجرّد حبر على ورق، خاصّة ذلك التعهّد أن أيّ اتفاق يجب أن يضمن عودة سكان المناطق الشماليّة الذين غادروا منازلهم دون رجعة بالنسبة لمعظمهم، وهو ما لم يحدث، ويبدو أنه لن يحدث، أو التعهّد الشامل من أن الحرب لن تتوقّف إلا بعد ضمان أن لا يبقى "حزب الله" يشكِّل تهديدًا على أمن المدنيّين في شمال إسرائيل، وهو ما لم يحدث، وما أثار غضب الإسرائيليّين هناك وتساؤلاتهم المُحِّقة حول الدوافع وراء وقف إطلاق النار.

وإذا ما قارنا الحال في لبنان بذلك الذي في غزة، يصبح البحث عن " المنطق الضائع" كما ذكرت قبل قليل، أشدّ صعوبة، خاصّة مع إصرار نتنياهو على استمرار الحرب في غزة حتى لو كان ذلك بثمن منع، أو عرقلة أيّ صفقة لتبادل الرهائن والمخطوفين الإسرائيلييّن بسجناء فلسطينيّين، أو استمرار استنزاف قوة الجيش وجنوده من النظاميّين والاحتياط، فمقابل "حزب الله" الذي ما زال حيًّا يرزق، واستطاع ترميم بعض قدراته القياديّة، وما زال يحظى بدعم شعبيّ وسياسيّ واسع، بل وما زال قوة برلمانيّة وحكوميّة وعسكريّة قائمة وموجودة، وقادرة اليوم وغدًا على استئناف الحرب ضدّ إسرائيل وإطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيَّرة باتّجاهها، ورغم ذلك تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار معها، دون العودة إلى البرلمان الاسرائيليّ للتصويت عليه، وفوق ذلك اتفاق تمّت صياغته باللغة الإنجليزيّة، وهي لغة لا يفهمها معظم وزراء المجلس الوزاريّ المصغّر، وفي مقدّمتهم الوزيران سموتريتش وبن غفير وممثّلو الأحزاب الدينيّة فيه، والذين اكتفى نتنياهو بعرض ملخّص الاتفاق عليهم بترجمته هو، وهذا بالمناسبة ما طلبه بنيامين نتنياهو وحزبه والموالون له سياسيًّا وإعلاميًّا عندما وقّعت حكومة يائير لبيد السابقة اتفاق المياه الأقليميّة الاقتصاديّة مع لبنان وتحديدًا حقول الغاز، والتي تبعد عن حدود إسرائيل عشرات الكيلومترات، إضافة إلى اتهام المعارضة حينها للبيد أنه يقبل بتهديد أمن إسرائيل، بينما يُبقي الاتفاق الحاليّ مسلّحي "حزب الله" على بعد كيلومترات قليلة، أو أحيانًا مئات الأمتار عن الحدود وكذلك صواريخهم تلك قصيرة المدى، وتلك المتوسطة وبعيدة المدى، ورغم ذلك تم وقف إطلاق النار، بينما في قطاع غزة يختلف الحال تمامًا ، فحركة "حماس" في أسوأ حالاتها بعد أن اجتاح الجيش الإسرائيليّ كافّة مناطق القطاع ووصل مواقعها هناك حتى محور فيلادلفيا أو صلاح الدين، وأقام وفق صور الأقمار الاصطناعيّة مواقع ومعسكرات وتحصينات تؤكّد أنه لا ينوي ترك المنطقة خلال السنوات القريبة، وبعد أن استطاع السيطرة على كافّة المحاور والتحكّم بكميات ووتيرة الموادّ التموينيّة التي تدخل القطاع، ووصل إلى كافّة قيادات الحركة في الداخل والخارج، ونجح عبر الإدارة الأمريكيّة في ممارسة الضغط على دولة قطر، لتخفيف دعمها لحركة "حماس"، وربما أيضًا طردهم من الدوحة، علمًا أن أخبارًا غير مؤكّدة رشحت هذا الأسبوع حول مغادرة قيادات "حماس" الدوحة إلى موقع غير معروف، بينما تم القضاء بشكل شبه تامّ على قوة "حماس" العسكريّة، والأهمّ من ذلك وجود إجماع، أو قبول دوليّ وصمت عربيّ لمبرّرات الحرب على غزة، وإعلان مسؤولين عسكريّين إسرائيليّين أن تواجد الجيش الاسرائيليّ في غزة، لم يعد من أجل مواجهة "حماس" وهزيمتها فهي غير موجودة، إضافة إلى نقمة الشارع الغزيّ عليها، بل إنه لمجرد التواجد هناك، وهو ما يؤكّد السؤال حول مبرّرات رفض نتنياهو وقف إطلاق النار في غزة حتى لو كان لفترة مؤقّتة ما، متعذّرًا بأن وقف إطلاق النار حتى لأيام سيمنع الجيش من معاودة القتال، وهو تمامًا عكس الادعاء الذي كان في صلب خطابه الذي برّر فيه وقف إطلاق النار في لبنان ، بقوله إنه سيتم استئناف المعركة إذا ما خرق حزب الله الاتفاق وأن الجيش، وهو نفس الجيش الذي يقاتل في قطاع غزة ونفس القيادة، مستعدّ لاستئناف القتال، وهي تصريحات أراد بها نتنياهو إخفاء السبب الحقيقيّ، لإصراره على مواصلة الحرب في القطاع، وهو سبب سياسيّ ائتلافيّ خالص، فهو يدرك أن وقف الحرب في غزة وسحب الجيش ولو جزئيًّا من هناك، يعني نهاية أحلام اليمين الاستيطانيّ في حكومته ممثّلًا بالوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، في إعادة الاستيطان في غزة بكافّة مناطقه والعودة عمليًّا إلى ما قبل انسحاب حكومة أريئيل شارون من طرف واحد من القطاع عام 2005، وبتأييد من بنيامين نتنياهو كعضو في الحكومة ذاتها في حينه، وبالتالي نهاية ائتلافه اليمينيّ، وانتخابات يدرك نتنياهو حقّ الإدراك أنه لن يعود بعدها إلى سدّة الحكم وعندها سيواجه مصيره المحتوم بالمثول أمام القضاء كمواطن عاديّ، وربما أكثر من ذلك، كما أنه يدرك أن وقف الحرب وانهيار الائتلاف معناهما وقف تشريعات تهدف إلى تخليصه من ورطاته القضائيّة عبر سيطرة تامّة على الجهاز القضائيّ والنيابة العامّة والشرطة والمحكمة العليا خاصّة، وبالتالي نقف اليوم أمام وضع غريب مع عودة الجهود الدبلوماسيّة العربيّة والأمريكيّة والدعوات الإسرائيليّة الداخليّة لوقف الحرب خاصّة من ضباط في الجيش وعائلات المختطفين والرهائن الذين يخشون موت أعزّائهم بسبب برد الشتاء الحاليّ ونقص الغذاء في غزة، لوقف الحرب في القطاع ، حيث كشفت مصادر إسرائيليّة عن رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المقترح المصريّ الجديد للهدنة، رغم تأييد غالبيّة الوزراء في المجلس المصغّر لها باستثناء وزيري الأمن القومي الإسرائيليّ إيتمار بن غفير والماليّة بتسلئيل سموتريتش، ما يزيد حدّة التساؤلات عن أسباب تعنّت نتنياهو أمام جهود وقف إطلاق النار ، بينما نقلت مصادر مطّلعة أن نتنياهو رفض الهدنة بحجّة أن وقف إطلاق النار ليومين يجب ألاّ يكون قبل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليّين، وأنه يجب مواصلة إجراء المفاوضات تحت النار، لكن الحقيقة هي ما ذكرته سابقًا من أن نتنياهو يتعرّض ربما لضغوط، أو حتى لابتزازات من سموتريتش وبن غفير، أو أنه يفعل ذلك بمحض إرادته في محاولة منه لغلق دائرة تاريخيّة بدأت بتصويته إلى جانب الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وها هو بعد عقدين يسدّد "دينه" بالعودة إلى قطاع غزة والقبول بفكرة استعادة الاستيطان هناك، وربما كما قال الوزير بن غفير، يقبل ولو صمتًا بفكرة تقليل عدد الفلسطينيّين في غزة وربما الضفّة الغربيّة، عبر تشجيعهم على الهجرة، أو دفعهم إليها، فهو اليوم من يقود وحيدًا دون منافس داخليّ حكومة اليمين المتطرّف، ودون أيّ تهديد خارجيّ، بعد أن نجحت حكومته في تجاوز تسونامي الاحتجاجات ضد محاولات السيطرة على الجهاز القضائيّ، وكذلك الإخفاقات التي بلغت ذروتها في السابع من أكتوبر 2023، وانسحاب حزب بيني غانتس من الحكومة، وذلك عبر ضمان تماسك ائتلافه الأصليّ الذي ضمّ 64 نائبًا، ازداد عددهم الى 68 بانضمام حزب الوزير جدعون ساعر إلى الحكومة، وبالتالي لديه استحقاقات داخليّة يريد تحقيقها منها قانون التجنيد وانتظار الرئيس الأمريكيّ الجديد دونالد ترامب، على أمل أن يشكّل دخوله البيت الأبيض ضغطًا على "حماس" لتليين موقفها أكثر والقبول بشروط مخفّفة لصفقة تبادل لا تشمل وقف الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيليّ من القطاع نهائيًّا، حيث قالت صحيفة نيويورك تايمز نقلًا عن بعض المسؤولين الغربييّن أن نتنياهو ينتظر تولي دونالد ترامب منصبه، قبل تغيير موقفه من المحادثات مع "حماس".

"التحكّم والسيطرة"
وانطلاقًا من اعتبار السياسة من الميادين الأكثر إشكاليّة بالنظر إلى تشعّبها وصراع القوى فيها، وتضارب المصالح داخلها بين الأفراد والجماعات، ما يؤثّر على كيفيّة تدبير شؤون الدول ورسم خطوط سيرها. فإن كل سياسيّ يستند إلى مجموعة من التقنيّات والآليّات من أجل التحكّم والسيطرة، وتنفيذ خططه وتحقيق تصوّراته، خاصّة عبر استخدام الخطاب الشعبويّ غير العقلانيّ بشكل يتمكّن من تجاوز الحاجز الثقافيّ والحضاريّ، أي أن لا يقتصر ذلك على مجموعة معيّنة ثقافيّة أو عرقيّة دون غيرها، ومن هنا جاء توجّه الحكومة الحاليّة في إسرائيل التي حاول رئيسها ووزراؤها إقناع العامّة بعد السابع من أكتوبر 2023 أن "حماس" هو الخطر الوجوديّ على إسرائيل ، وبالتالي يجب عدم وقف الحرب معه، بل إبادته نهائيًّا متناسين أنهم هم من قلّلوا من خطر "حماس" قبل ذلك واستهانوا بقوته، واعتبروا تهديداته والمعلومات التي وفّرتها الاستخبارات عامّة ووحدة 8200 النخبويّة خاصّة حول نوايا اجتياح البلدات الإسرائيليّة الحدوديّة الجنوبيّة، خطرًا مبالغا في تقييمه، خاصّة وأن القطاع محاطٌ بسياج حديديّ حدوديّ متطوّر ومجسّات وموانع تحت أرضيّة وفوق أرضيّة لن تتمكّن قوات "حماس " من اقتحامها، إضافة إلى إغداق الأموال القطريّة عليها والتي اعتبرها نتنياهو وسيلة لإسكاتها وتخديرها حتى أنه وبعض وزرائه اعتبروها حليفًا استراتيجيًّا وذخرًا، ومنهم بتسلئيل سموتريتش. وليس حزب الله الذي يشكّل الذراع الشرق أوسطيّة لإيران، والتي ستواصل دعمه وتسليحه وتمكينه سياسيًّا واقتصاديًّا، ورفده بدعم إخوة له في سوريا والعراق وغيرها والحوثيّين في اليمن، ورغم أن قوته العسكريّة اليوم تبلغ مئات أضعاف قوة "حماس"، وموقعه السياسيّ داخل لبنان، بل كونه بيضة القبان في كل شيء هناك، ورغم ذلك اختار نتنياهو إنهاء الحرب مع "حزب الله" وليس "حماس" خلافًا لكل منطق عسكريّ، أو أمنيّ أو سياسيّ أو اقتصاديّ أو مدنيّ خاصّة، وأن بقاء "حزب الله" مع جزء من قوّته يشكّل خطرًا داهمًا على الشمال، ما يؤكّد أن اعتبارات وقف إطلاق النار في الشمال من جهة، والإصرار على استمرار الحرب في غزة رغم انتهاء مفعول وقوة ووجود "حماس" تقريبًا، تؤكّد أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الاعتبارات ليست موضوعيّة وهذا أقلّ ما يقال.
  ختامًا، وبغية محاولة فهم استمرار وجود من يعتقد أن المنطلقات التي كانت وراء وقف إطلاق النار هي موضوعيّة، لا مفرّ من العودة إلى ما يصفه خبراء علم السياسة وربما علم النفس على أنه" الانحياز للسلطة (Authority bias)، وهو انحياز تمتاز فيه الشعوب والدول غير المتطوّرة، أو غير الديمقراطيّة. وملخّصه الثقة غير العقلانيّة في كلّ تصرفات وقرارات الأشخاص أصحاب النفوذ، أو المناصب الرفيعة، والقبول الأعمى بتصريحاتهم واقوالهم وآرائهم، وتبنّيها كما هي دون تفكير، والاعتقاد بأنّها صواب فقط، لأنّها تصدر من أشخاص ذوي مناصب وسُلطة عالية، أو الظاهرة المسمّاة ظاهرة" تأثير الهالة (Halo effect)"والتي صاغ تعريفها عالم النفس الأمريكيّ "إدوارد لي ثورندايك" عام 1920، مشيرًا إلى قيام العامّة بصياغة انطباعاتها وأحكامها على شخص ما انطلاقًا من شعورهم وتفكيرهم في شخصيّته، وتحديدًا على جاذبيّته التي تؤثّر على كيفيّة تقييمهم لما يصدر عنه، وهذا هو الحال في الجانبين الإسرائيليّ عبر رئيس الوزراء الذي ما زال غالبيّة الإسرائيليّين يعتبرونه الأجدر برئاسة الوزراء، رغم كل ما حدث والأقدر على ضمان أمن الدولة، وكذلك في الجانب الفلسطينيّ الذي ما زال تأييد حركة "حماس" فيه يشهد ارتفاعًا خاصّةً في الضفة الغربيّة، وكذلك لبنان الذي ما زال "حزب الله" يحظى فيه بالدعم وسط هالة من أنه المدافع عن غزة والفلسطينيين والقدس والأقصى، وبالتالي يصدق قول الباحث فيليب سيرجنت للسياسيّ أن عليه أن يكون صاحب موهبة في اتّخاذ مواقف إبداعيّة، وأن يتحدّث طوال الوقت عن إنجازاته الكثيرة الموعودة وعن قدرته على تحقيقها، وقوله أيضًا للسياسيّ:" عليك أن تقنعهم (العامّة أو الشعب)، مرّة جديدة بما أقنعتهم به في المرّة الماضية، وإذا كنت في أوّل الرحلة في عالم الكذب السياسيّ فقل إنك ستنفذ وعود منافسك التي لم ينفذها"، وهذا يقينًا ما يحدث اليوم، فهل ستصدق كذبة وقف إطلاق النار في لبنان، أم ستصدق تكهّنات الخبراء العسكريّين أنه "هدنة"، أو "وقفة لالتقاط الأنفاس" فقط لمتابعة الحرب الضروس بعدها.. وهذا هو السيناريو الأقرب ربما إلى الحدوث!!

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il