اسماء الياس - صورة شخصية
كانت الصواريخ وبكل قوتها متجهة نحو مكانٍ معين، أول شيء تبادر لذهني أين الهروب من كل ما يحدث. صوت صافرة الإنذار تخيفني رغم أنها تحذر من حدوث شيء خطر، يجب أن نتداركه ونهرب منه لمكانٍ آمن. في تلك اللحظة خطر ببالي الذين لا بيت لهم يسكنون الخيام. بأي الأماكن يختبئون عندما تفاجئهم الطائرات التي تقصف بيوتهم وخيامهم من دون شفقة ولا رحمة؟
نحن نمتلك البيوت والأماكن الآمنة، وإذا فرضًا أطلقت صافرة الإنذار نهرب نحو الأماكن الآمنة التي جهزت لهذا الغرض. لم تمر ثوانٍ قليلة وإلا وقد سمعنا خبطات متواترة وشديدة وقوية هزت على إثرها النوافذ والأبواب، غير قلوبنا وارواحنا التي ارتعبت لدرجة كنت على حافة الاغماء، لولا زوجي جابر الذي كنت متمسكة به لأني كنت مرتعبة لدرجة فقدت الإحساس بأرجلي.
توجهنا بسرعة نحو الغرفة التي عادة نخزن فيها كل ما يحتاج البيت من مؤمن. جهزناها حتى تلائم الوضع الذي نعيشه هذه الأيام، لكي نلجأ إليها في الوقت العصيب. بناها جدي منذ زمن بعيد وجعل حيطانها ثخينة فقد كان يقول الحيطان الثخينة تجعل البيت باردًا بالصيف ودافئًا بالشتاء. لهذا اخترناه حتى يكون المكان الآمن الذي نختبئ به كلما شعرنا بالخطر يحدق بنا.
جابر ليس فقط زوجي هو الإنسان الوحيد الذي أحببته. فقد تربينا منذ نعومة أظفارنا نشأنا سويًا لهذا والدي اعتبره أحد أولاده. وعندما توفى والده إثر العملية الجراحية للقلب المفتوح. زاد القرب بين جابر وبين أبي. قال له: اعتبرني مثل والدك واي شيء تريده أطلبه مني دون أن تخجل. جابر منذ طفولته حتى مرحلة شبابه كان خجولاً وقليل الكلام. لكن عندما نكون وحدنا ينطلق لسانه بشكل كنت أشك بأن الذي يتكلم معي هو جابر جارنا ورفيق الطفولة.
ربما لأننا تربينا سويًا وطوال الوقت كنا نقضيه مع بعضنا البعض لم نكن نفترق إلا بالأوقات التي كنا نذهب به إلى النوم. لهذا اعتياد أحدنا على الآخر، كان السبب الذي جعل جابر منطلق اللسان لا يخجل بالتعبير عما يشغل باله ويؤرق منامه.
حدثني عن صعوبة الحياة التي يعيشها. وخاصةً بعد موت والده اضطر مكرهًا أن يعمل حتى يعيل اسرته. وهو المحب للعلم والتفوق، فقد كان يحلم بأن يصبح طبيبًا، لكن ظروفه الحالية جعلته يؤجل هذا الحلم بينما يجد عملاً يكون مصدر رزق للعائلة ويا ليت استطاع أن يوفق بين عمله ودراسته.
عندما أسر لي بذلك حزنت جدًا وهو الذي أوصاني والدي عليه. فقد قال لي: يا ابنتي أنا أعلم مدى القرب بينك وبين جابر، ولأني أعلم مدى خجله من أن يطلب مني مساعدة، لهذا أطلب منك أن تجعليه يفتح قلبه لك، حتى تعلمي منه الشيء الذي ينقصه ويحتاجه، وأنا أعلم بأنه بحاجة للشيء الكثير، لكن كرامته فوق كل اعتبار. عند عودتي للبيت توجهت لوالدي وقد كان جالسًا في مكتبه يراجع بعض الأوراق عندما وجدني متوجهة نحوه ابتسم وقال لي:
أهلا بابنتي الحبيبة لقد اشتقنا لك. وحتى لا تهرب مني شجاعتي توجهت لوالدي دون مقدمات. والدي جابر بحاجة لعمل حتى يوفق بينه وبين جامعته. على عيني ورأسي أنت وجابر، قولي له أن يأتي غدًا للشركة الساعة العاشرة صباحًا. لا تخبريه لماذا أريده حتى لا يخجل ويرفض أن يأتي.
حاضر يا والدي.
وفي اليوم التالي توجه جابر إلى مكتب والدي بوسط المدينة، فهو يمتلك شركة استيراد وتصدير. عينه موظف بأجر جيد وأخبره بأن ساعات العمل بعد الظهر عندما تكون قد عدت من التعليم وأنهيت مراجعة الدروس.
عمل جابر وتعلم في نفس الوقت، فقد جمع بين عمله ودراسته لم يكن يترك دقيقة واحدة في يومه دون أن يستغلها بالقراءة والبحث في بطون الكتب عن التخصص الأقرب على قلبه وألا هو جراحة القلب.
وهذا القرار ليس ابن يومه، بل هو نتيجة تفكير عميق على مدى سنوات طويلة منذ كان طفلاً، ومنذ اليوم الذي فقد به والده. فقد مات بعد أن خضع لعملية القلب المفتوح، والذي قام بالعملية طبيب متدرب لم يمتلك الخبرة الكافية حتى يستدرك الخطأ الطبي الذي حدث أثناء العملية، توفى والده والسبب لا توجد خبرة كافية. ومنذ ذلك اليوم الذي توفى به والده وهو يفكر بأنه سوف يتعلم طبيبًا حتى يعالج كل شخص لديه نفس الأعراض الذي أصابت والده ويجعلهم يعودون لأسرتهم وهم بكامل صحتهم وعافيتهم.
تزوجنا وسكنا بإحدى الشقق الذي بناها والدي وقد وزعها على أولاده بالتساوي أولادًا وبناتًا لا فرق بين ولد وبنت كلكم أبنائي قال لنا. لهذا محبتنا لبعض كانت مصدر حسد كل العائلات.
بعد مرور سنوات، وبعد أن أصبح لنا أولاد وبنات قرر جابر بعد مشاورتي شراء أرض واسعة وفيلا حتى تكون لنا بعد زواج أبنائنا نقضي فيها آخر أيامنا بعيدًا عن ضوضاء المدن وزحامها.
في هذه الأيام الصعبة التي نمر بها. حرب لا أحد يعلم عواقبها، خوف من أن تتوسع ويصبح من الصعب احتواؤها. قررنا أن نخرج للتظاهر واعلان العصيان على كل ما يحصل. ورغم الغارات التي تستهدف الأبرياء لكننا هنا باقون. وأخيرًا لا بد أن تنتهي الحرب ويحل مكانها السلام.
فقط دعونا نتمسك بالحلم بأن السلام لا بد آتٍ..