logo

المحامي زكي كمال يكتب : الحرب والسلم لا تقرّرهما الشعوب - بل القيادات الحكيمة

26-07-2024 08:01:24 اخر تحديث: 26-07-2024 08:15:52

تقترب الحرب المتواصلة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 والتي بخطىً واثقة وسريعة، وقبل ذلك مؤلمة، من شهرها العاشر، بما فيها القصف الإسرائيليّ لمواقع الحوثيّين في اليمن وميناء الحُدَيْدَة تحديدًا بعد انفجار المسَيَّرة

المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا

 الحوثيّة في تل أبيب الأسبوع الماضي ومصرع مدنيّ إسرائيليّ، قد تصدّرت ظاهريًّا العناوين الإعلاميّة إسرائيليًّا، خاصّة مع ازدياد وتيرة الحديث عن صفقة قريبة، أو وفق تصريح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فور وصوله الولايات المتحدة مطلع الأسبوع، وبعد يوم واحد من إعلان الرئيس الأمريكيّ جو بايدن سحب ترشيحه للرئاسة كممثّل للحزب الديمقراطيّ، عن صفقة تقترب شروطها من النضوج، لتبادل الرهائن والمخطوفين، وما يرافقها من معلومات عن أن عدد الأحياء من الرهائن الإسرائيليين في غزة لا يزيد عن 30 من أصل نحو 120 ما زالوا محتجزين، إلا أن التبحّر قليلًا في مجريات الأحداث، وبنظرة تتعدّى الأهمّيّة الآنيّة، أو ما نسمّيه إعلاميًّا" الريتنغ"، أي اللهاث وراء التسويق المؤقّت، يجعل من الصحيح بمكان القول، أو ربما الجزم ، بأنّ قضيّة أخرى كانت حاضرة، وبقوّة وكثافة إسرائيليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، هي الأوْلى بالحصول على الاهتمام وتصدّر العناوين، وهي قضيّة إقامة دولة فلسطينيّة بتشعّباتها وأبعادها ومعانيها المرحليّة والمستقبليّة المتعدّدة، وذلك على ضوء المجريات الهامّة الحقيقيّة، والتي تتلخّص في أربعة أمور تبدو لأوّل وهلة غير مرتبطة، أو لا علاقة بينها، أوّلها قرارات محكمة العدل الدوليّة حول عدم شرعيّة، أو قانونية الاحتلال الإسرائيليّ للضفة الغربيّة وشرقيّ القدس، وثانيها مشروع القانون الذي أقره البرلمان الإسرائيليّ- الكنيست- بأغلبيّة كبيرة للغاية، والذي يؤكّد رفض إسرائيل إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة في الضفّة الغربيّة وشرقيّ القدس، أو أيًّا كانت، رغم ما يحمله ذلك من تناقض داخليّ إسرائيليّ خاصّة وأن القوانين الإسرائيليّة لا تعتبر الضفّة الغربيّة جزءًا من إسرائيل، وبالتالي لا يمكنها منطقيًّا إذا ما استبعدنا الأهداف الحزبيّة والسياسيّة، بل الائتلافيّة الداخليّة وأهداف "الريتنغ" كما ذكرنا سابقًا رفض إقامة كيان عليها، أو تحديد ما يحقّ، أو لا يحقّ حدوثه فيها، وثالثها التطوّرات الداخليّة الأمريكيّة وانسحاب جو بايدن من السباق الرئاسيّ لتخلفه كما يبدو، كامالا هاريس نائب الرئيس، وهي صاحبة مواقف مؤيّدة لإقامة دولة فلسطينيّة، وحلّ الدولتين ووقف الحرب في غزة، ورابعها المعطيات التي تمّ الكشف عنها وصدرت عن دائرة الإحصاء المركزيّة، وهي مؤسّسة حكوميّة رسميّة موثوقة، حول أعداد المستوطنين في الضفة الغربيّة والتي تشير إلى أن الحديث عن ملايين اليهود في الضفة الغربيّة، وعن ازدياد قبول المستوطنات وأيديولوجيتها بين الإسرائيليّين لا مكان له من الصحّة، وأن سياسات الحكومات الإسرائيليّة المتتالية خاصّة برئاسة بنيامين نتنياهو وائتلافه الذي طالما ضمّ أحزاب اليمين، وخاصّة الائتلاف الحاليّ، لم تنجح في تغيير الواقع، بمعنى استقدام عشرات آلاف المستوطنين الجدد، خاصّة وأنه اتّضح أن أكثر من 90 بالمئة من تزايد أعداد المستوطنين سببه التكاثر الطبيعيّ، وليس استقدام، أو وصول المستوطنين الجدد، وقضايا أخرى سنعود إليها، دفعت بصحيفة هآرتس، إلى وصف المشروع الاستيطانيّ الإسرائيليّ في الضفة الغربيّة بأنه" المشروع العقاريّ الأكثر فشلًا على الإطلاق"، رغم كافّة الجهود والميزانيّات والتسهيلات والتشريعات منذ العام 1967 وحتى اليوم، وفي عهد كافّة حكومات اليمين واليسار في إسرائيل.

وإن كان الحديث عن الاستيطان اليهوديّ في الضفة الغربيّة وقطاع غزة والجولان وحتى سيناء قبل إخلائها ضمن اتفاقيّات "كامب ديفيد" وكذلك شرقيّ القدس، يبدو وكأنه يرتبط ارتباطًا عضويًّا ومباشرًا باليمين الإسرائيليّ، إلا أن الحقيقة التاريخيّة هي غير ذلك، فبدايته كانت في عهد حكومات "المعراخ"، أو حزب العمل، والذي كان الحزب الحاكم حتى 1977 قبل أن يتضاءل حجمه وتأثيره حتى كاد يندثر خلال الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة كجزء من حالة غريبة عجيبة تعيشها إسرائيل قوامها موت واندثار ما يسمّى اليسار الصهيونيّ، أو اليهوديّ والذي رفع طيلة عقود شعارات السلام، وقبول إقامة دولة فلسطينيّة، كما تجلّى في قبول قرار التقسيم الذي أقرّته هيئة الأمم المتحدة سنة 1947 واتفاقيّات أوسلو عام 1993، وذلك عبر توازٍ غريب مع دعم الاستيطان ابتداءً من استيطان سبسطية نهاية ستينيات القرن الماضي، وبعدها استيطان الخليل مع الحاخام ليفنغر مطلع سبعينيّات القرن الماضي وشرقيّ القدس فور احتلالها عام 1967، وهو تضاؤل واضمحلال يمكن القول إنه وصل حدّ الوفاة، كما تثبت الوقائع البرلمانيّة والحزبيّة من جهة ومواقف الأحزاب الممثّلة في البرلمان والمحسوبة، تصريحيًّا على الأقل بأَنها يسار يهوديّ، أو صهيونيّ، خلال جلسة البرلمان قبل أسبوع بالضبط والتي اقرت بأغلبيّة 68 عضوًا مقابل معارضة 9 هم أعضاء البرلمان من الأحزاب العربيّة، مشروع قرار قدّمه عضو الكنيست، زئيف إلكين، عن كتلة "اليمين الرسميّ"، يرفض إقامة دولة فلسطينيّة، إذ حظي الاقتراح بتأييد من المعارضة والائتلاف، بما في ذلك أحزاب "اليمين الرسميّ" بقيادة جدعون ساعر، والليكود بزعامة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ، و"المعسكر الوطنيّ" بقيادة بيني غانتس والأحزاب اليمينيّة الاستيطانيّة والأحزاب الأصوليّة المتديّنة، بينما غادر النواب عن حزب "يش عتيد" برئاسة زعيم المعارضة يائير لبيد قاعة التصويت، على الرغم من أنه يدعم حلّ الدولتين، علمًا أنه جاء في نصّ القرار أن الكنيست، أي البرلمان الإسرائيليّ يعارض بشدّة إقامة دولة فلسطينيّة غربي نهر الأردن ( في تلميح ربما إلى اعتبار الأردن كما قال كثيرون، ومنهم رئيس الوزراء أريئيل شارون وربما سلفه من الليكود إسحق شمير، المكان الذي يجب أن تقوم فيه الدولة الفلسطينيّة)ويعتبر أن إقامة دولة فلسطينيّة في قلب أرض إسرائيل ، كما جاء باعتبار أن هذه الأحزاب تعتبر الضفة الغربية على الأقلّ أرضًا وعد الله بها اليهود، سيشكّل خطرًا وجوديًّا على دولة إسرائيل ومواطنيها، وسيؤدّي إلى تكريس وإدامة الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وزعزعة استقرار المنطقة مدّعيًا أن حركة "حماس" سوف تستولي على الدولة الفلسطينيّة وتحولها إلى دولة إرهابيّة إسلاميّة متطرّفة، تعمل بالتنسيق مع المحور الذي تقوده إيران للقضاء على دولة إسرائيل.

" رسالة للادارة الأمريكية "
هذا القرار والذي سبقه في شباط الماضي تصويت للبرلمان ذاته أيّد فيه قرار الحكومة الذي رفض الاعتراف الأحاديّ الجانب بالدولة الفلسطينيّة، في قرار حظي بدعم 99 من أعضائه ومعارضة 9 أعضاء فقط، وذلك ردًّا على أنباء تحدّثت عن إمكانيّة اعتراف أمريكيّ، أو أوروبيّ وأمميّ من جانب واحد بدولة فلسطينيّة، والذي وصف إقامة دولة فلسطينيّة بأنه "جائزة للإرهاب" جاء قبل أيام من زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن لإلقاء كلمة في جلسة مشتركة للكونغرس، ولقاء الرئيس الأمريكيّ جو بايدن في البيت الأبيض ونائبه كامالا هاريس، يشكّل في نظر الكثيرين بتوقيته رسالة للإدارة الأمريكيّة الحاليّة، وهو قرار يزعج الديمقراطيّين في الولايات المتحدة، بسبب تعنّت الحكومة الحاليّة، ومواصلة رفضها لأيّ حلّ يقترب من حلّ الدولتين، بل دعوة بعض مركّباتها لضمّ الضفة الغربيّة وغور الأردن، وتكريس كونها حكومة تزداد رفضًا لحلّ الدولتين، وربما يزعج حتى الإدارة الجمهوريّة التي يتمنّى الإسرائيليّون أن تكون بعد الانتخابات الرئاسيّة القادمة، لكنّه قرار يؤكّد أن إسرائيل تدرك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أن الحديث عن استقرار في المنطقة وإنهاء للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، ليس ممكنًا على ضوء المعطيات الدوليّة، وتزايد أعداد الدول التي تعترف بدولة فلسطينيّة، وتطالب إسرائيل بوقف الحرب في غزة والعودة إلى طاولة المفاوضات، وأن الحرب في غزة وربما في رمية من غير رامٍ، أعادت قضيّة إقامة الدولة الفلسطينيّة، وإنهاء الصراع وحلّ الدولتين إلى الحياة، خاصّة مع حديث متزايد عن أنه شرط سعوديّ لإتمام عمليّة التطبيع مع إسرائيل، لكنّه في نفس الوقت محاولة إسرائيليّة للقول إن إسرائيل تتخذ قراراتها السياديّة بذاتها، وأن الضغوط الدوليّة والأمميّة التي تحاول فرض حلّ يشمل دولة فلسطينيّة لن تجدي نفعًا، وهي رسالة يؤكّد إقرار المشروع أنها اليوم تشكّل الغالبيّة البرلمانيّة الإسرائيليّة خاصّة في الظرف الحاليّ، وخلال الحرب في غزة وربما بسببها، وأن المركز واليسار الصهيونيّ يخشى حتى الإعلان عن معارضته لها، أو التصويت ضدّها، وبالتالي ينسحب "يش عتيد" من القاعة، بينما يمتنع أعضاء حزب "العمل" عن التصويت رغم حديثهم المتواصل عن "إعادة إحياء اليسار الصهيونيّ الديمقراطيّ" عبر اتّحاد بين حزب" العمل" برئاسة يائير غولان وحزب "ميرتس" الذي لم يجتز نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانيّة نهاية عام 2022، وتشكيل حزب جديد يحمل اسم "الديمقراطيّين"، يبدو بل من المؤكّد أن أعضاءه، أو ممثّليه في البرلمان يخشون كشف كونهم من اليسار، أو مواقفهم اليساريّة المعتدلة الداعية إلى إنهاء الاحتلال وإقامة كيان فلسطينيّ، ومنح الفلسطينيّين إمكانيّة تقرير مصيرهم، وبالتالي محاولة إقناع المجتمع الدوليّ ومؤسّساته أن إسرائيل ترغب في السلام، ولا تريد مواصلة قمع الفلسطينيّين ومصادرة أراضيهم ووقف استيلاء المستوطنين على أراضيهم، ووقف الحرب في غزة فورًا والتي يتزايد عالميًّا وصفها بأنها حرب تدميريّة، بل ربما حرب إبادة،. وهو ما تشير إليه معطيات كشفت عن استخدام عبارة" إبادة شعب" في وسائل الإعلام العالميّة وتصريحات السياسيّين في العالم أكثر من 772 مرة منذ السابع من أكتوبر، مقابل 66 مرّة طيلة العام 2022 كلّه، وهو أمر يزداد خطورة خاصّة وأنه يأتي بعد هجمات السابع من أكتوبر والتي نفّذتها حركة "حماس" وأودت بحياة مئات الإسرائيليّين من الجنود والمدنيّين واختطاف أكثر من 230 منهم، ومن هنا يمكن القول إن الموقف من القضيّة الفلسطينيّة، وحلّ الدولتين كما تجلّى الأسبوع الفائت كان شهادة الوفاة الرسميّة والنهائية لليسار في إسرائيل، على اختلاف مسمّياته وأسمائه وشخوصه وشخصيّاته.

وبما أن الصدفة خير من ألف ميعاد، جاء إعلان محكمة العدل الدوليّة ظهر يوم الجمعة، أي بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على قرار الكنيست المذكور، جاء قرار محكمة العدل الدوليّة الذي يقول إن وجود إسرائيل في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة هو تواجد غير شرعيّ، وبالتالي فإن المنظمات الدوليّة بما فيها الأمم المتحدة وغيرها وهذا يشمل مجلس الأمن الدوليّ، ملزمة بعدم الاعتراف بشرعيّة هذا الاحتلال، أو شرعنة بقائه بما معناه وجوب رفض الوجود غير القانونيّ، وعدم الاعتراف به ومطالبة إسرائيل بإنهائه، كما جاء في القرار الذي تم الإعلان عنه في جلسة عقدتها، لبحث ممارسات إسرائيل في المناطق المحتلّة، ومنها الضفة الغربيّة وشرقيّ القدس منذ 1967 وحتى اليوم.

هذا إضافة إلى اعتبار قاضي محكمة العدل الدوليّة في لاهاي، ورئيسها نواف سلام إن المحكمة تؤكّد أن عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، وفشل إسرائيل الرسميّة- بل ربما عدم رغبتها - في منعه أو معاقبة مرتكبيه بشكل فعّال، واستخدامها المفرط للقوة ضد الفلسطينيّين يعني إدامة القمع والظلم ما يناقض التزاماتها بموجب القانون الدوليّ، وأن المستوطنات الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة، وكلّ ما يرتبط بها ويلفّها، أقيمت وما زالت قائمة بشكل يعني استمرار انتهاك للقانون الدوليّ، مع إشارة خاصّة إلى ممارسات إسرائيل في الضفة الغربيّة وشرعنة نقاط استيطانيّة جديدة، وكلّها أمور تبعت تعيين وزير إضافيّ في وزارة الأمن الإسرائيليّة هو بتسلئيل سموتريتش، صاحب نظريّة الحل النهائيّ والتي تعتمد ضمّ الضفة الغربيّة واعتبارها جزءًا من إسرائيل، ورفض أيّ كيان سياسيّ للفلسطينيّين واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، أو رعايا لا يحقّ لهم التصويت، ويشترط بقاءهم بولائهم التامّ للدولة اليهوديّة واعترافهم بحدودها وعدم معارضة سياساتها، ومن هنا جاءت أقوال المحكمة الدوليّة حول الاستيلاء القسريّ على الأرض التي تحتلها، ومحاولات إسرائيل ضمّها إليها يعكس نية مبيّتة للسيطرة الدائمة عليها، ومن هنا فإن استمرار الممارسات الإسرائيليّة غير القانونيّة لعقود من الزمن، حرمت الشعب الفلسطينيّ من حقّه في تقرير المصير على مدى فترة طويلة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا القرار، أو ما اتفق على تسميته قانونيًّا " الرأي الاستشاريّ" غير ملزم بعكس قرارات محكمة الجنايات الدوليّة، فإن مواصلة النظر فيه منوطة بقرارات الجمعيّة العامّة التي يمكنها تحويله إلى مجلس الأمن الدوليّ للبحث، وهذا ما جاء في بيان للأمين العام للأمم المتحدة، الذي أعلن إحالة الرأي الاستشاريّ الصادر من محكمة العدل الدوليّة إلى الجمعيّة العامّة التي طلبت مشورة المحكمة عام 2022، أي أن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة هي التي ستقرّر كيفيّة المضي قدمًا في هذا الشأن، وأن المسار الوحيد القابل للتطبيق هو حلّ الدولتين، دولة إسرائيل ودولة فلسطينيّة مستقلّة بالكامل وديمقراطيّة ومتّصلة جغرافيًّا، وقادرة على الاستمرار وذات سيادة، تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمن في إطار حدود آمنة ومعترف بها دوليًّا على أساس خطوط ما قبل عام 1967، وأن تكون القدس عاصمة للدولتين، وهو ما يتأتّى فقط بعودة الطرفين إلى المسار السياسيّ ،وإنهاء الاحتلال وحلّ الصراع بما يتوافق مع القانون الدوليّ وقرارات الأمم المتّحدة.

قضية الاستيطان التي تطرّق إليها رأي محكمة العدل الدوليّة وقرار البرلمان حول رفض إقامة دولة فلسطينيّة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا برغبة اليمين والمستوطنين بمنع إقامة دولة فلسطينيّة، لأسباب دينيّة توراتيّة خلاصيّة، قبل أن تكون أمنيّة أو سياسيّة، وذلك عبر تكثيف الاستيطان وزيادة عدد المستوطنات حتى لو كانت وفق التعريف الإسرائيليّ غير قانونيّة، والمعطيات تشير إلى ازدياد ملحوظ في حجم المستوطنات الإسرائيليّة، حيث تمّت المصادقة في الفترة بين تشرين الثاني 2022 وتشرين الأول 2023، على نحو 24300 وحدة سكن ضمن المستوطنات الإسرائيليّة القائمة في الضفة الغربيّة، منها 9700 وحدة تقريبًا في القدس الشرقيّة، ورغم الازدياد الذي بلغ 15% خلال السنوات الخمس الماضية، فإن الأعداد لا ترضي الجهات الداعمة للاستيطان، خاصّة وأن معطيات رسميّة صادرة عن دائرة الإحصاء المركزيّة، وهي مؤسّسة حكوميّة ورسميّة، تشير إلى أن 92% من الزيادة في أعداد المستوطنين مصدرها التكاثر الطبيعيّ وخاصّة في مدينتين لليهود المتزمتين دينيًّا الحريديم وهما بيتار عيليت وموديعين عيليت، وأن الحديث عن أن الاستيطان يؤدّي، أو أدّى إلى تغيير، أو انقلاب ديمغرافيّ هو حديث عارٍ عن الصحة على ضوء معدل التكاثر الأعلى لدى الفلسطينيّين، ناهيك عن أن المستوطنين يشكّلون اليوم 14% فقط من سكان الضفة الغربيّة وعددهم نحو 498000 مواطن، وأن 60% منهم يقيمون في مستوطنات متاخمة لحدود الخط الأخضر، وعلى بعد كيلومترات قليلة منه، وبالتالي فإن أيّ تعديل للحدود بنسبة 4 بالمئة، أو تبادل سكانيّ يعني ضم 80 بالمئة من المستوطنين إلى إسرائيل، وهو ما يفسّر أن عدد المستوطنين في منطقة غور الأردن والبحر الميت لا يزيد عن 10 آلاف رغم كافّة المحاولات والإغراءات، وأن 40% من المستوطنين يندرجون ضمن الفئات الضعيفة اقتصاديًّا واجتماعيًّا والتي تعتمد في معيشتها على المعونات الحكوميّة، وبالتالي فهم نسخة ثانية من مدن التطوير والتي يسكن معظمها يهود من أصول شرقيّة، تحوّلت إلى بؤر للفقر والبطالة والعنف ناهيك عن أنها تفتقر بمعظمها إلى مقوّمات الحياة المستقلة من حيث المناطق الصناعيّة ومصادر الرزق وأماكن التشغيل، خاصّة في المدن الكبيرة، ومنها المدينتان سابقتا الذكر اللتان يقطنهما اليهود المتزمّتون، وهما متاخمتان لحدود 1967 وبالتالي لا بدّ من السؤال هل هذه الفئة السكانيّة مستعدّة لدفع ثمن أطماع توسعيّة واستيطانيّة للفئات الخلاصيّة التي تعتبر أرض إسرائيل التوراتيّة هدفًا تصبو إليه مهما كلّفها ذلك من ثمن ووقت وصدام مع العالم؟.
الأمر الرابع هو زيارة نتنياهو إلى واشنطن، والتي تأتي وسط ظروف أقل ما يقال فيها إنها الأقل مناسبة له، فهي أمام رئيس تحلّل من القيود التي تفرضها عليه الحملة الانتخابيّة ورغبته في إرضاء أنصار إسرائيل، وبالتالي فهو وكما أكدت مصادر مطّلعة سيؤكّد حلّ الدولتين وضرورة وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما أكّده بايدن نفسه حين قال، إن صفقة التبادل أصبحت قريبة ومعها كما هو معلوم وقف إطلاق النار، وأنه سيفعل ذلك قبل انتهاء ولايته، كما أن نتنياهو أمام مرشحة جديدة للرئاسة مواقفها أكثر اعتدالًا حتى من بايدن، ومطالبتها بوقف إطلاق النار أشدّ وأكثر حدّة من بايدن، وهي مرشّحة أعادت الروح للحملة الانتخابيّة للحزب الديمقراطيّ، بعد أن اعتبرها نتنياهو ومؤيّدوه من اليمين في إسرائيل قد فارقت الحياة، أو أنها خاسرة بشكل مؤكّد. ومن هنا فإن قضية الدولة الفلسطينيّة وإشراك السلطة الفلسطينيّة في مرحلة ما بعد الحرب في غزة ووقف إطلاق النار ما زالت ماثلة وموجودة، وأن الإدارة الأمريكيّة القادمة مهما كانت توجّهاتها ستعاود إحياء المسيرة الدبلوماسيّة خاصّة وأنها، وتحديدًا مع دونالد ترامب، ستعاود بناء علاقاتها الوطيدة مع السعوديّة وولي عهدها الذي تربطه بمقرّبي ترامب وفي مقدّمتهم صهره جاريد كوشنير علاقات وثيقة، علمًا أن ولي العهد ضخّ ملياري دولار لصندوق استثمار يديره كوشنير ويستثمر في شركات إسرائيليّة، إضافة إلى الرغبة الأمريكيّة في صلح وتطبيع إسرائيليّ سعوديّ ستدفع إسرائيل جزءًا من ثمنه، تريده أمريكا محور ممانعة مقابل إيران وحليفاتها وتوغّلها في الشرق الأوسط ودول الخليج، بدعم روسيّ وصينيّ.

" العزف على الوتر القوميّ"
عودة القضية الفلسطينيّة إلى الواجهة وتجنّد أنصار اليمين ونتنياهو ضدها وضد مؤيّديها كحلّ سياسيّ ومنفذ وحيد، لإنهاء النزاع وإعادة الاستقرار، دون مناقشة عقلانية وواعية لها، بل الإسراع إلى اتباع نهج الترهيب أي تخويف الناس منها والعزف على الوتر القوميّ، أو القومجيّ والوجوديّ، دون أيّ نقاش لميزاتها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة وعلى جودة حياة الجميع، يعكس نهجًا جديدًا تعيشه إسرائيل من حيث عدم خوض، أي نقاش واعٍ، بل الإسراع إلى كيل التهم والتخوين والتخويف واعتبار من يخالف الرأي خارجًا عن الإجماع، كما يتم اليوم لكلّ من ينادي بمسيرة سياسيّة ودولة فلسطينيّة مستقلّة، من حيث وصمه بالخيانة والتخاذل والتنازل عن الكرامة والاستخفاف بالجنود الذين يقاتلون في غزة، بل وبالقتلى والجرحى منهم، وهو ما يتم مقابل كلّ من يحاول اليوم توجيه اللوم للائتلاف الحاليّ ورئيس الحكومة نتنياهو، وكم بالحري المطالبة بوقف فوريّ لإطلاق النار في غزة ، عبر اتهامه بالخيانة والتخاذل والتعاون مع العدو، واتهام من يطالب رئيس الوزراء بالتنحّي والتنازل لمسؤوليتّه عن السابع من أكتوبر ونتائج الحرب الحاليّة، بأنه محرّض ضد شخص رئيس الوزراء وكلّ من يؤكّد ضرورة إزاحة نتنياهو عن سدّة الحكم، بأنه يهدد حياة رئيس الوزراء، وهذه واحدة من الصفات التي تميّز الديمقراطيّة عن الدكتاتوريّة، فالأولى تتيح مساحة للنقد والانتقاد والتعبير عن الرأي والنقاش، أما الثانية وهي بكثير من صفاتها ما تشهده اليوم البلاد، تعتمد التلويح بأخطار تبدو وهميّة تحدق بالزعيم والقائد، ومؤامرات مُتَخَّيَلة تُحاك في الخفاء، تبرر استخدام العنف ضد من يتفوّه بأيّ انتقاد وفض المظاهرات باستخدام القوة، وربما الحدّ من الحريّات والقبول بحالة يُطيل القائد فيها أمد الحرب عمدًا للبقاء على سدّة الحكم، بمعنى أن الزعيم يهتم أولًا بمصلحته ومصلحة أبناء عائلته ومقربيه، دون المواطنين ويتجاهل آلامهم، فهل القول الذي نُقِّل عن نتنياهو حول كون الرهائن في غزة يعانون لكنهم ليسوا ميّتين، يستوفي هذه المواصفات؟ وهل سيواصل الائتلاف الحاليّ بتشريعاته وتوزيع ميزانيّاته تقريب إسرائيل إلى منطقة بعيدة عن الديمقراطيّة؟ هذا ما لا يخفيه بعض أعمدة الائتلاف، وهذا ما يخيف الكثيرين ويدفعهم إلى تسريع وتكثيف نشاطاتهم لإنهاء عهد الحكومة الحاليّة، أملًا بمرحلة جديدة، ومختلفة برلمانيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.. فلمن ستكون الغلبة؟ للضالّين أم للعقول النيّرة ؟

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il