logo

المحامي زكي كمال يكتب في بانوراما و بانيت : ‘لا الردع المزعوم ولا النصر المطلق غير الموجود ضمان للهدوء دون السلام‘

28-06-2024 08:03:03 اخر تحديث: 28-06-2024 08:07:34

تكاد الحرب في غزة تنهي شهرها التاسع، إلا أنها تتواصل بين مدّ وجزر، بعد أن انتقلت وفق التعريف الإسرائيليّ من مرحلة الحرب التي تحمل اسم " السيوف الحديديّة" إلى مرحلة "المُحارَبة"، أو القتال العاديّ واليوميّ،

 المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت

أو الحرب بوتيرة منخفضة. تشكّل تسميتها تلك محاولة لفظيّة للتحايل على العقول والرأي العامّ، أي الضحك على الذقون، والامتناع عن قول الحقيقة الواقعة والواضحة وضوح الشمس في كبد النهار، بأنها تحوّلت إلى حرب استنزاف تشكّل نسخة ثانية، وربما أشدّ وأخطر ممّا كان عليه الحال خلال التواجد العسكريّ الإسرائيليّ في لبنان، الذي انتهى في أيّار من العام 2000 إلى انسحاب كامل وغير مشروط، تتخلله عمليات كرٍّ ٍوفرٍّ عسكريّة، ومحاولات أثبت التاريخ صعوبتها إن لم يكن عدم جدواها لوضع حدّ ونهاية للقوّة العسكريّة لمنظّمة مسلّحة، فضلًا عن وضع حدّ لسلطتها المدنيّة والخدماتيّة، وسيطرتها على العقول عبر دعوة دينية متطرّفة تريد الخلافة وتعتبر فلسطين وقفًا، خاصّة وأن ذلك ضمن معادلة طرفها الآخر جيش نظاميّ يحارب وسط مدنيّين، وإن كانوا يمقتون سيطرة "حماس"، وعدم اكتراثها بهم وبمصيرهم ومآسيهم، إلا أنهم سواء بمحض إرادتهم أو رهبة وخشية، يعلنون رفضهم للتواجد الإسرائيليّ، ويعتبرونه احتلالًا، كما انتقلت فلسطينيًّا من مرحلة النشوة المؤقّتة والزائفة ربّما بهجوم عسكريّ اختاروا له ومن منطلق دينيّ ، اسم "طوفان الأقصى" إلى إعصار هدم الأخضر واليابس، وحوَّل غزة من شمالها إلى جنوبها الى ركام وحطام، وجعلها منطقة غير قابلة للعيش الآدميّ، كما يقول البعض، وأكثر بأضعاف كثيرة مما كانت عليه في السابق، إلا أنها تؤكد بما لا يقبل الشك أو التأويل، أن القيادة في طرفي المعادلة ترفض الخروج من قوقعة الشرق الأوسط، أو التخلّص من داء التصريحات الناريّة والفضفاضة دون رصيد والتي يشهدها هذا الشرق منذ نحو 100 سنة، وخاصّة تلك التصريحات التي يحاول الزعماء فيها ادّعاء نصر لم يتحقّق بل ربما لن يتحقّق، عبر شعارات تخاطب العواطف، وتعزف على وتر الخوف، وتحاول توحيد الشعب خلف قيادة واحدة ليس من منطلق الإيمان بصدق القيادات والتوجّهات، بل انطلاقًا من عامل الخوف والغضب والكراهية الذي عادة ما يوحّد الشعوب داخليًّا خلال الحروب، ويشدّ من أزرها، ويجعلها تبدو متّحدة وموحّدة. وهو عامل عامّ في تعزيز القدرة على الصمود، إن لم يكن تحقيق النصر، المطلق أو الجزئيّ، عملًا بما جاء في مقدّمة ابن خلدون، والذي قال إن الحرب هي أمر طبيعيّ في البشر لا تخلو عنه أمّة ولا جيل، وأن تحقيق الانتصار في هذه الحرب مشروط بشكل عام بعدم التكافؤ الكمّيّ والنوعيّ بين الجهتين المتحاربتين، وأن العنصر الحاسم في تحقيق النصر هو حالة العصبيّة، بمعنى أن النصر سيكون من نصيب الجانب الذي تكون فيه "عصبيّة واحدة جامعة لكلّهم"، أي الذي تتّحد فيه جميع الجهات وتذوب الخلافات والاختلافات، وذلك على حساب الجانب الذي تكون فيه جماعات وعصائب متعدّدة، وذلك "لأن العصائب إذا كانت متعدّدة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبيّة". وهو وصف دقيق للأشهر الأولى من الحرب، والتي سادها إجماع إسرائيليّ غير مسبوق على كونها حرب صادقة ومبرّرة تشكّل الردّ الصحيح والمناسب على هجمات السابع من أكتوبر، وبدأ يتلاشى بعد أن اتضح أن حكومة نتنياهو لا تملك أيّ خطة إنهاء الحرب أو لليوم التالي، وأن رئيسها يريد استمرار الحرب لأهداف سياسيّة ضيّقة وخاصّة، وصولًا إلى ما نحن عليه اليوم من مظاهرات شعبيّة أسبوعيّة تطالب بالعمل على توقيع صفقة لتبادل الرهائن، بل المطالبة بانتخابات جديدة تشكّل كما تشير الاستطلاعات نهاية للحكومة اليمينيّة المتطرّفة الحاليّة، بينما كانت الحالة الفلسطينيّة معاكسة ومختلفة، بدايتها صدمة فلسطينيّة من الردّ الإسرائيليّ غير المتوقّع، والذي كان واسعًا وحادًّا لم تتوقّعه قيادة "حماس" يقينًا، رافقه تعاطف عالميّ وحتى عربيّ مع إسرائيل وغضب عارم على الفظائع وعلى قيادات "حماس" التي وضعت غزة ومواطنيها في أتون الحرب، سرعان ما تبدل هذا الموقف إلى تأييد للفلسطينيّين ومظاهرات ضد إسرائيل وقرارات من محكمة العدل الدوليّة وأوامر اعتقال صدرت، وقد تصدر بحق بنيامين نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت ووزير الخارجية يسرائيل كاتس وغيرهم وضباط من الجيش، وانتهى إلى اعتراف دول أوروبيّة وأخرى بدولة فلسطين.

مواصلة القيادة في إسرائيل ورئيس الوزراء في مقدّمتها، ورغم أصوات متحفّظة من إمكانيّة تحقيق النصر التامّ، وفق شعارات نتنياهو، ومنها ما صدر عن الناطق بلسان الجيش دانيال هاغاري، ورئيس مجلس الأمن القوميّ تساحي هنغبي، خاصّة إذا ما أضفنا إليها التصريحات حول ضرورة استعادة قوة، أو قدرة الردع الإسرائيليّة التي أثبت السابع من أكتوبر وما سبقه من مواجهات عسكريّة بين إسرائيل والدول العربيّة، باستثناء حرب 1948، يعني أن هذه القيادات ترفض الاعتراف بالحقيقة والتي تقول إن السابع من أكتوبر شكَّل نقطة فارقة، بغض النظر عن نتائجه، فهو الدليل على انهيار واحد من الأسس الرئيسية والأعمدة المركزيّة لمفهوم الأمن في إسرائيل وهو مفهوم الردع، وبدايته شئنا أم ابينا في نظرية " الجدار الحديديّ"، أو الردع، التي وضعها مؤسّس الليكود ومُنَظِّر الحركات اليمينيّة، زئيف جابوتنسكي، والذي ادّعى أن التواجد ( الاستيطان) اليهوديّ لفلسطين يجب أن يمضي قدمًا خلف "جدار حديديّ" من التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ التامّ والواضح، وأن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوافق بموجبها العرب على الوجود اليهوديّ في فلسطين، ويمتنعوا عن شنّ الحروب ومحاولة مواجهة إسرائيل عسكريًّا، هي الجدار الحديديّ، أي القوة العسكريّة الإسرائيليّة التي ترفض الخضوع لأيّ ضغط دوليّ أو عربيّ، أو بكلمات أخرى فالوسيلة الوحيدة للوصول إلى اتفاقيّة في المستقبل، هي التخلّي عن كلّ فكرة تسعى إلى إبرام اتفاقيّة في المرحلة الراهنة، وبكلمات عصريّة المزج التامّ بين قوة عسكريّة تردع العرب والفلسطينيّين وغيرهم، وتمنعهم من مجرّد التفكير بهجوم على الأراضي الإسرائيليّة، وإدارة للصراع بمعنى تأجيل، أو رفض أيّ محاولة للحلّ، وتكريس الوضع الراهن، والذي يعتبر في الحقيقة متغيِّرًا وبسرعة، ضمن مفهوم أوسع للأمن القوميّ يتطرّق إلى أبعاده السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها، ويأخذ بالحسبان الحالة الخاصّة لدولة إسرائيل والتي تعيش وسط محيط من الشعوب العربيّة المعادية، رغم اتفاقيات صلح وسلام كانت بين القيادات أكثر ممّا هي بين الشعوب، ما استوجب الحفاظ على خصوصيّات ومنطلقات عسكريّة واستراتيجيّة خاصّة، قوامها التفوّق العسكريّ والتكنولوجيّ لاحقًا، والقدرة على الردع والقدرات النوويّة كما تتحدّث محافل أجنبيّة ومعها مبدأ الضربة الاستباقيّة (باستثناء حرب أكتوبر 1973 والتي شكّلت فشلًا استخباراتيًّا ذريعًا)، والعمل على نقل المعركة بسرعة لأرض العدو، والثقة دائمًا بأن خسائر الطرف الآخر عربيًّا كان أم فلسطينيًّا ستكون أكبر بكثير بل مضاعفة، ناهيك عن دعوته، أي ( جابوتنسكي) إلى التخلّص ممّا وصفه بالسذاجة السياسيّة التي يعانيها اليهوديّ، والتي قال عنها جابوتنسكي عام 1923 أنها "هائلة، وهي غير قابلة للتصديق. إنه لا يدرك القاعدة البسيطة التي تقول إنه يُحظر عليك في المطلق مراعاة إنسان لا يرغب في مراعاتك"، وكأنه يتحدّث اليوم عن مراعاة إسرائيل لحركة" حماس" والتأكيد على أنها خائفة ومرتدعة، وأنها تقبل العيش بهدوء، أو بهدنة مع إسرائيل مقابل عشرات ملايين الدولارات شهريًّا، والحديث عن أنها لا تريد حربًا مع إسرائيل، لأنها تعرف نتائجها القاسية.

لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إن مواصلة الحديث إسرائيليًّا عن نصر عسكريّ تامّ يؤكّد عدم استخلاص العبر التاريخيّة، وعدم فهم المعطيات التي تؤكّد أن" الجدار الحديديّ" والكلمات والمرادفات الأخرى التي تتحدّث عن أن الجيش الإسرائيليّ بعتاده وتقنياته، يمنع الحروب ويشكّل الرادع للدول المجاورة وجيوشها، أو للمنظّمات الفلسطينيّة، أو لحركة "حزب الله" ، لم يكن كذلك أبدًا، وأن الحروب المتتالية مع الدول العربيّة تؤكّد ذلك، بدءًا بالأيام التي تلت حرب عام 1948، والتي أكّد كثيرون أن نتائجها والنكبة التي لحقت بالفلسطينيّين ومئات آلاف اللاجئين منهم الذين وصلوا الى الدول العربيّة المجاورة، ستجعلهم وكذلك الدول العربيّة يرتدعون عن أيّ محاولة لمجاراة، أو مواجهة إسرائيل عسكريًّا، لتكون النتيجة مختلفة عبر عمليّات نفّذها من تمّ وصفهم إسرائيليًّا بأنهم متسلّلون وفلسطينيًّا بأنهم فدائيّون، وكان الردّ الإسرائيليّ عليها عمليّات عسكريّة داخل الدول العربيّة، ثمّ جاءت حرب عام 1956، والتي سميَّت عربيًّا "العدوان الثلاثيّ" وأرادت منها إسرائيل بمساعدة بريطانيا وفرنسا ردع مصر خاصّة والدول العربيّة عامّة، واستعادة قوة الردع الإسرائيليّة، لكنّ النتيجة كانت معاكسة، لتأتي حرب حزيران عام 1967، مؤكّدة أن الدول العربيّة لا تخشى القوة العسكريّة الإسرائيليّة، رغم إدراكها قوتها وفاعليتها، ورغم النتيجة التي كانت نكسة خطيرة خلال أقل من ستّة أيّام ساد الاعتقاد بعدها أنها ستقطع دابر كلّ محاولة لمواجهة إسرائيل عسكريًّا ، اعتقاد نسفته حرب أكتوبر عام 1973، ثمّ عمليّة الليطانيّ عام 1978، ضد منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وبعدها حرب لبنان العام 1982 والثانية عام 2006، والمواجهات العسكريّة بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة، والتي بلغت منذ العام 2007 وحتى اليوم 14 مواجهة وغيرها آخرها السابع من أكتوبر التي أثبتت أن الجدران الحديديّة والإسمنتيّة فوق الأرض وتحتها، لا تضمن عدم اندلاع الحروب، ولا تضمن الهدوء والأمن والسلام.. والاستنتاج واحد السلام والاعتراف في حقّ الجانب الفلسطيني في الكيان والدولة المستقلّة.

"الطرف الأضعف في المعادلة"
   وعلى الجانب الثاني من المعادلة، يقف الطرف الفلسطينيّ بشقّيه، السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة من جهة وحركة "حماس" من جهة أخرى، وهو طرف بشقّيه يعتبر الأضعف في المعادلة، سياسيًّا على الصعيد العالميّ وحتى الإقليميّ، واقتصاديًّا، وكم بالحري عسكريًّا على الصعيد - حتى لو اعتبرنا حركة" حزب الله" جزءًا من معادلة محور "حما س- ايران" في هذا السياق- والذي حاول "تعديل" سياسة الجدار الحديديّ، بل خلق صيغة فلسطينيّة لها، تريد أمرين، كان أولهما السنوات الأولى لقيادة دولة إسرائيل، محاولة استنزافها عبر عمليّات عسكريّة فرديّة، سبق وأشرنا اليها، وبالتالي منعها من استمرار السيطرة على أراضٍ فلسطينيّة وسط تصريحات عربيّة عالية صوتًا فارغةً مضمونًا حول "النصر التامّ"، والحديث عن عودة قريبة، وكيان سيزول وغير ذلك، ليتضح أن ضجيج الشعارات ما كان إلا ليغطي على خفوت، بل انعدام الرغبة الحقيقيّة، أو القدرة الحقيقيّة على تغيير الواقع عسكريًّا مقابل إسرائيل، ليتغيّر الأمر في نهاية الثمانينات من نهاية القرن الماضي، عبر ما يمكن اعتباره صيغة فلسطينيّة للجدار الحديديّ، بمعناه الذي يتطرّق إلى الوجود الفلسطيني وضمانه عبر كيان مستقلّ سياسيًّا على الأقلّ، بدأ باعتراف منظّمة التحرير عام 1988 بإسرائيل، ثمّ اتفاقيّات أوسلو التي كانت محاولة لتحقيق سلام يضمن الوجود الفلسطينيّ بمعناه الأوسع، أي إقامة كيان وضمان الحياة الآمنة، وربما وضع حد للاحتلال وضمان الانسحاب كما نصّت الاتفاقيات، لكنّها وكما القيادة الإسرائيليّة اليوم، نسيت عبر التاريخ التي تؤكّد أن توقيع الاتفاقيّات المكتوبة ، ليس نهاية المطاف، بل بدايته، ونسيت أو تناست وربما لأسبابها الخاصّة وفرحها وفرح شعبها بإمكانيّة الاستقلال، أن بناء الإنسان سابق لبناء الكيان، وأن حمايته وتحقيق "النصر" على ما كان في السابق، وعلى الجهات خاصّة الخارجية، وتحديدًا تلك الإسرائيلية التي عارضته وكانت كثيرة، إنما يتطلّب ما وصفه ابن خلدون في مقدّمته من "عصبيّة جامعة "، وهنا بمعناها الإيجابيّ والوحدويّ، الذي يتطلب، بل يحتِّم كون الفلسطينّيين وحدة واحدة، لتحقيق النصر، وهو بناء كيانهم وتحصينه وصيانته، أما الواقع فكان العكس في اتجاهين ما زالا مستمرين حتى يومنا هذا، أولهما وهو انسحاب، أو خروج "حماس" من تلك العصبيّة الجامعة، وتحويل الخلاف السياسيّ إلى شرخ داخليّ واسع، واستبدال محاولة تعديل الاتفاقيّات وهي مرحليّة في مضمونها حينذاك لم تتطرّق إلى الوضع النهائيّ، عبر حوار سياسيّ عقلانيّ داخليّ كان في حينه ممكنًا، وأمكنه أن يؤدّي إلى نتائج إيجابيّة، بعمليّات عسكريّة ضد أهداف إسرائيليّة عسكريّة ومدنيّة أوقعت مئات الضحايا الإسرائيليّين، وزادت من ارتفاع لهيب معارضة الاتفاقيّات المذكورة إسرائيليًّا وعالميًّا، ما كان عمليًّا بداية نهايتها، أو تحديدًا ومنعًا للغبن التاريخيّ، واحدًا من أسباب موتها يضاف إليه سياسات حكومات بنيامين نتنياهو المتتابعة، وميل المجتمع الإسرائيليّ بعدها إلى المواقف اليمينيّة والتطرّف القوميّ والدينيّ والاستيطانيّ.

" الشرخ الأول "
كما أن انسحاب "حماس" من العصبيّة الفلسطينيّة الجامعة حينها، كان الشرخ الأول في الشرخ الفلسطينيّ الداخليّ، وانهيار مفهوم "الجدار الحديديّ" الداخليّ فيه، بمعنى أن بقاءه واستقلاله وكرامته رهن بمنع الحرب الداخليّة، أو الصدام الداخليّ المسلّح الذي بدأ حينها، باستخدام فصيل فلسطينيّ السلاح والقوة العسكريّة، ضد فصيل آخر وسياساته وتوجّهاته، في محاولة لإفشالها بغضّ النظر عن نتائج هذا العمل على الفلسطينّيين عامة، وهي كارثيّة كما اتضح لاحقًا، في خطوة كانت بداية، أو مقدّمة لنهاية العصبيّة الجامعة فلسطينيًّا عبر اقتتال داخليّ مسلح في غزة عام 2007 ، تزامنت بدايته، وللتاريخ هنا أهميّة وكلمة، في السابع من أكتوبر ، مع مرور يومين على الذكرى السادس والخمسين لحرب حزيران 1967، واحتلال الضفة الغربيّة وغزة، والجولان وشبه جزيرة سيناء - التي انسحبت إسرائيل منها بعد اتفاقيّات كامب ديفيد- وغور الأردن، وانقسام فلسطينيّ تامّ ونهاية أكيدة لكلّ محاولة للحلّ السياسيّ، وخلق كيانين سياسيين فلسطينيّين غير قابلين للحياة، بالإضافة إلى سوء إدارة من قبل السلطة الفلسطينيّة في السنوات الأولى التي تلت اتفاقيّات أوسلو، وخاصّة فيما يتعلّق بالدعم الماليّ العالميّ عامّة والأوروبيّ خاصّة، والذي أفشل محاولات، أو إمكانيّات بناء الإنسان الفلسطينيّ اقتصاديًّا وسياسيًّا وأكاديميًّا وعلميًّا وإنسانيًّا ، وهو بناء أمكنه في نهاية المطاف منع الانقسام، وترسيخ فكرة الكيان المستقلّ والعيش الكريم، والحيلولة دون تغلغل توجّهات دينيّة متزمّتة يشكّل الفقر والجهل واليأس من الحلّ السياسيّ أرضًا خصبة لها يمكنها تكريس نظام يعتبر الناس، أو الإنسان وقودًا لحرب، أو نشاطات عسكريّة منطلقاتها دينيّة ووضعها في المكان الأوّل.
الشقّ الثاني فلسطينيًّا هو حركة "حماس" التي يواصل قادتها ومنذ العام 2007 عامّة، وفي السنوات الأربع عشرة الأخيرة خاصّة، التعنّت على صيغة حمساويّة لمفهوم " الجدار الحديديّ" تعتقد أن ضمان بقاء سلطتها في غزة ككيان مستقلّ عن كيان السلطة الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة، يعتمد على ردع إسرائيل، بمعنى تشكيل قوّة ردع ، هي بالأساس عسكريّة خاصّة مع انعدام القوة الاقتصاديّة والبشريّة والتقنية في القطاع، تجعل إسرائيل تكتفي في كلّ مرّة بردّ عسكريّ موضعيّ، أو حملة مختصرة، أو مواجهة محدود سقفها الزمنيّ والميدانيّ والجغرافيّ، تنتهي بهدنة أو تهدئة، تضمن أمرين أولهما تمكين قادة "حماس" من إطلاق تصريحات النصر المطلق ودحر العدو، واستعادة وتأكيد معادلة الردع ضدّ إسرائيل، وثانيهما ضمان بقاء كيان "حماس غزة" حقيقة واقعة تغذّيها مئات ملايين الدولارات القطريّة سنويًّا والمساعدات الإيرانيّة عسكريًّا وماليًّا، بموافقة إسرائيليّة، ومئات ملايين الدولارات التي تتدفّق ضمن ما اعتدنا تسميته بإعادة الإعمار ، وهي تسمية أخطأت الوصف، فهي مئات ملايين الدولارات التي استخدمتها قيادات "حماس" لإخفاء معالم وتبعات سياساتها وتصرّفاتها، بمعنى إعمار ما هدّمته هذه السياسات، ليتمّ هدمه مرّة أخرى وهكذا دواليك، خاصّة أن " حماس" واصلت تنمية وزيادة قوتها وتحصيناتها ، خلال الأعوام الستة عشر الأخيرة خاصّة، وخاضت أربع حروب كبيرة ومعارك عديدة أصغر مع إسرائيل سبّبت الدمار في غزة، واعتمدت في كلّ مرة استخدام المزيد من الصواريخ التي تصل إلى مسافة أبعد، وينجو كبار قادتها في كل مرة، وينجحون في تأمين وقف إطلاق النار والتخفيف التدريجيّ للحصار الذي فرضته إسرائيل، وهكذا دواليك، وخلاصة القول أن الانقسام الفلسطينيّ، وتوجهات الكفاح المسلّح التي اعتمدتها "حماس" لفرض سلطتها على الساحة الفلسطينيّة خاصّة في غزة، وبعدها في الضفة الغربيّة- وهو ما يقال إنه السبب الحقيقيّ في إلغاء الانتخابات الفلسطينيّة الأخيرة، وليس قضية تصويت مواطني شرقي القدس- قد انتهى إلى تهميش سلطة الرئيس محمود عباس وحقّق لها ما تريده في السابق، تغير بعد السابع من أكتوبر وهجماته التي أوصلت غزة ومعها حركة "حماس" نفسها إلى مناطق مجهولة ومصير غير مسبوق، ما يعني ضرورة قيام الجانب الفلسطينيّ، بشقيه، أي السلطة الوطنيّة التي تقود الشعب الفلسطينيّ، أي الطرف الذي وقع اتفاقيّات السلام، ولا يزال يلتزم بنهج السلام، ومن جهة ثانية فإن على المعارضين لاتفاقيّات أوسلو والسلام مع إسرائيل وفي مقدّمتهم "حماس" ، مراجعة مواقفهم وسؤال أنفسهم:" هل تصرّفنا بشكل صحيح طوال الوقت، ولماذا لم ننجح في بناء نظام سياسيّ واحد متماسك" . وهل ولماذا كانت تصرفاتنا هي ما أوصل الواقع الفلسطينيّ إلى ما هو عليه اليوم، خصوصًا في قطاع غزة الذي تواصل إسرائيل حربها ضده، بل هدمه وتفكيكه وإعادة احتلاله.

 الأمثلة التاريخية حول "النصر المطلق" كثيرة منها ما هو مستعار في منطقتنا وخاصّة في المفهوم الإسرائيليّ من التوراة، أي فكرة إبادة العمالقة، وهي كثيرة في العالم وأوروبا بمفهومها من القرون الوسطى الذي يعني السيطرة بالقوة، أو بمنطق الاستسلام التام، كما جرى لألمانيا ودول المحور أمام الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية، فالنصر المطلق المذكور كان من المفروض أن يشكّل رادعًا للطرف المهزوم من جهة، وللطرف المنتصر من جهة أخرى، كي لا يتحوّل نصره إلى نشوة تعميه عن رؤية المخاطر، وتجعله يبادر إلى خطوات متهوّرة، خاصّة تكرار استخدام أسلحة الدمار الشامل بعد القنبلة الذريّة في هيروشيما وناغازاكي، أي الردع النوويّ المتبادل، وأن ينهي أيّ احتمالات مستقبليّة للتحارب والحروب، وأن ينهي الصراعات، لكنّه خلق العكس عبر كتلتين الأولى غربيّة تقودها الولايات المتحدة، والثانية شرقية يقودها الاتحاد السوفييتيّ استمرت بينهما الحرب باردة أحيانًا كثيرة وتسخن أحيانا أخرى، حتى يومنا هذا رغم نهاية عهد الاتحاد السوفييتيّ وبداية عهد روسيا وتفكك حلف وارسو، والحرب الأوكرانيّة خير دليل ومثال مؤلم على أن النصر المطلق ليس الضمان للهدوء المطلق والسلام، خاصّة وأن العالم رغم النصر المطلق في الحرب العالميّة الثانية، اقترب أكثر من مرة وما زال الاحتمال من حرب عالمية ثالثة، لا تُبقي ولا تذر ، نوويّة أم غير نوويّة.

سياسات الردع بالقوة العسكريّة فشلت أمريكيًا في فيتنام وكذلك في العراق، حيث انحسر "داعش" لكن فكره لم يمت، وفشلت روسيًا في أفغانستان، وانتهت إلى انسحاب بعد سنوات من الحرب الدامية التي دعمت فيها الولايات المتحدة المجاهدين ومعها دول عربية وإسلاميّة منها السعوديّة، ما شكّل بداية "طالبان " وداعش وغيرهما، ومن هنا فإن فشل إستراتيجيّة الردع الإسرائيليّ لا يعتبر استثناء عن القاعدة، بل أمرًا متوقّعًا مثله مثل نظرية الردع التي تبناها قادة "حماس" والتي هدمت قطاع غزة على رؤوس سكانه ومواطنيه، فإن فشل إستراتيجيّة الردع الإسرائيليّ لا يعتبر استثناء من القاعدة، كما أنه يعتبر متوقّعًا، وبالتالي حان الوقت في حالتنا هنا، أي الحرب في غزة، أن ينزل القادة عن عرش الخطابات الرنّانة ومحاولات ادّعاء النصر المطلق التي لن تتحقّق، بل إنها تعني مواصلة إقصاء الطرف الآخر للمعادلة مواصلة سفك الدماء، واستبدالها بسياسة أخرى تقبله وتقبل العيش معه بسلام، فاختفاء طرف من طرفي المعادلة هو مستحيل، رغم أنه يمكن أن يكون مُتَخَيَّلًا لبعض المهووسين من الطرفين، وهنا أتذكر رواية "العجوز والبحر" للكاتب الأمريكي "إرنست همنغواي" وعبارة بطل الرواية "سنتياغو" التي تقول: "إن الإنسان قد يُدَمَّر، ولكنه لا يُهْزم".. وفي هذا عبرة لمن يعتبر.

وختامًا، أقترح على حكومة إسرائيل وحزب الله وحماس أن يتبنوا ما قاله عضو مجلس الشيوخ الأمريكي بعد فشل أمريكا في حرب فيتنام حيث توجه الى الأدارة الأمريكية أن تعلن عن النصر لكل أطراف الحرب الحالية، لأخفاء فشل جميعهم الوصول إلى النصر المطلق، أو المبين، لكي يُخدّروا باقي أطراف أجسام مواطنيهم التي تتلاشى يومًا بعد يوم، وأن لا يحزنوا، لأن هناك مشهدًا آخر حيث "مسرحية الحياة الدنيا لم تكتمل بعد، ولا بد من مشهد ثانٍ، لأننا نرى هنا ظالمًا ومظلومًا ولم نجد الأنصاف، وغالبًا ومغلوبًا ولم نجد الانتقام، فلا بدّ من عالم آخر يتمّ فيه العدل كما كتب الفيلسوف الألمانيّ كانت".

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il