logo

مقال: ‘بين مافيا السياسة وسياسة المافيا: أوجه الشبه والاختلاف‘ - بقلم : المحامي زكي كمال

بقلم : المحامي زكي كمال
14-06-2024 14:55:46 اخر تحديث: 14-06-2024 20:21:40

لم أجد أفضل من القول الشهير للكاتب والأديب الإيطاليّ الشهير ليوناردو شاشيا، من أن أحد أوجه الشبه بين السياسة خاصّة تلك المعاصرة ونشاط المافيا،

تصوير بانيت 

 ومثاله الحيّ هو تلك الإيطاليّة، هو "أن أمن الحكومة لا يتمّ إلا بانعدام أمن المواطن"، وذلك إزاء الأحداث الهامّة التي شهدتها منطقتنا خاصّة، وتحديدًا ما يتعّلق محليًّا باستمرار الجدل الداخليّ حول صفقات مقترحة لإطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزة، والذين تمّ يوم السبت الفائت تحرير، أو تخليص، أو إنقاذ أربعة منهم من مكان احتجازهم في مخيم النصيرات، وما رشح عن تصريحات من حركة "حماس" تقول إن عملية الإنقاذ التي نفّذتها قوات الجيش الإسرائيلي أدّت إلى مقتل أربعة من المحتجزين، وما رافق العمليّة من مصرع أكثر من مئتي فلسطينيّ، وتصريحات مسؤولين إسرائيليّين منهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو الذي اعتبر "حماس" طيلة سنوات ذخرًا .

ويختار مرّةً تلو الأخرى معاقبة السلطة الفلسطينيّة مؤكّدًا أنه يريد أن تنهار باعتبار لا فرق بينها وبين "حماس"، ولا فرق بين يحيى السنوار ومحمود عباس، فكلّهم أعداء، وهذا ما يؤمن به، ويريد تحقيقه بغية تكثيف الاستيطان اليهوديّ في الضفة الغربيّة، وربما العودة إلى المستوطنات اليهوديّة في قطاع غزة، والتي أخلتها من طرف واحد حكومة يمين برئاسة أريئيل شارون عام 2005، وغيره حول عدم الاستعداد لدفع ثمن ومقابل لصفقة تبادل، والتلميحات حول كون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سوف يستغلّ العمليّة العسكريّة النوعيّة لعرقلة أيّ عمليّات مشابهة، خاصّة بعد إعلانه أن الجيش سيواصل عمليّاته حتى إطلاق سراح كافّة الرهائن، وتصريحات مشابهة حول كون العمل العسكريّ الوسيلة الوحيدة لإطلاق سراحهم.

وفوق كلّ ذلك تصويت البرلمان الإسرائيليّ ، الكنيست، على مواصلة سنّ مشروع قانون يعفي اليهود المتديّنين المتزمّتين- الحريديم – من الخدمة العسكريّة، ما يعني إلقاء عبء الخدمة العسكريّة على نصف المجتمع الإسرائيليّ، رغم ما كشفته الحرب الحالية من نقص في عدد الجنود والحاجة الماسّة إليهم، خاصّة الاحتياطيّين، وبالتالي ضرورة تجنيد الحريديم الذين تريد الحكومة الحاليّة، حكومة اليمين التامّة، منحهم الإعفاء التامّ والمطلق، ليس إلا لأسباب سياسيّة ائتلافيّة تتلخّص في ضمان ديمومتها واستمرار حكمها، حتى لو كان ذلك على حساب النصف الباقي من المواطنين، وتشكيل خطر على حياتهم، مقابل ضمان أمن من لا يؤدّي الخدمة العسكريّة، وفلسطينيًا إزاء إعلان حركة "حماس"، وعلى لسان قائدها يحيى السنوار رفضها التخلّي عن سلاحها، رغم ما حلّ بالقطاع منذ السابع من أكتوبر، باعتبار أن ما حدث ليس هامًّا، أي أن الثمن الذي دفعه قطاع غزة وقوامه نحو أربعين الف قتيل ودمار شامل وكامل وتام، وفقر سيدوم أجيالًا أخرى، وعشرات بل ربما مئات آلاف الجرحى، كان ثمنًا يقبله السنوار وتقبله" حماس" ، مقابل هدف يرونه جديرًا وهو " خلط الأوراق" وتخريب الهدوء، كما قال بعض قياديي الحركة ومنهم خليل الحية بعد شهر من هجمات السابع من أكتوبر حين قال إن هدف "حماس" هو ليس إدارة شؤون القطاع وتوفير الماء والكهرباء له، وأن هجمات السابع من أكتوبر لم تكن لحاجة القطاع إلى الوقود، أو رغبته في تشغيل عماله داخل إسرائيل، وليس بهدف تحسين الأوضاع في القطاع، بل لخلط الأوراق أو "لخبطة الحال" بشكل نهائيّ كما قال .

وعالميًّا تصريحات الرئيس الأمريكيّ جو بايدن في الذكرى الثمانين لاجتياح، أو غزو نورماندي، والتي أطلقها خلال زيارة لفرنسا، حين قال إن الخضوع للدكتاتوريين والبلطجيّة أمر غير ممكن، وإن عبر التاريخ تؤكّد أن الحريّة لا تأتي مجّانًا، بل إنها تستوجب دفع الثمن الباهظ. وهي أقوال كان من الممكن أن تمرّ مرّ الكرام لولا سياقها السياسيّ، وتحديدًا خطوات أمريكا التي تشير إلى أنها تريد استمرار عدم الهدوء، خاصّة في الحرب الأوكرانيّة، ولذلك تخصّص مليارات الدولارات لدعم أوكرانيا، وحثّها على مواصلة الحرب، فأمريكا هنا تريد الحريّة، أو التحرّر من شبح فلاديمير بوتين الرئيس الروسيّ، وليدفع الأوكرانيون الثمن موتًا ودمارًا ، ومعها أوروبا كلّها التي تواجه الخطر الروسيّ، وقطع إمدادات الغاز عنها، وتدفّق اللاجئين الأوكرانيّين إليها، خاصّة في ظلّ مواقف أوروبيّة اتهمت الولايات المتحدة أنها لا تقدّم الدعم الكافي لأوكرانيا لمواجهة روسيا، بما يعرّض الأمن الأوروبي لتهديدات وأخطار، ومواقف أخرى معاكسة، ما يعني أن أمريكا تمارس السياسة الخارجيّة ليس لغرض خدمة مصالح أوكرانيا، أو الدول الأوروبيّة، بل لتحقيق مزيد من السيطرة والسطوة على دولة صغيرة، في مواجهة دولة كبيرة ونكاية فيها، دون اكتراث بمصير سكانها، وتبتزّهم أو تهدّدهم ولو ليس علنًا بوقف تسليحهم ورفع الحماية عنهم، وبالتالي يتنازلون عن مواقفهم وطموحاتهم، مقابل الحماية الأمريكيّة التي لو تمّ سؤالهم لقرروا التنازل عنها والعمل على وقف الحرب.. في تعبير عن الشبه بين سياسة المافيا ومافيا السياسة.

بغضّ النظر عن المنطلقات والدوافع السياسيّة والأيديولوجية إِن وجدت، فإن الأمثلة سابقة الذكر تشير إلى أن شاشيا صدق في وصف وتعريف أوجه الشبه بين المافيا والسياسة، فالسياسة في الحالات المذكورة تتلخّص في الرغبة في الحفاظ على القوة والسلطة ومضاعفتها، ومنع أيّ محاولة للمسّ بها، وفعل ذلك في حالة الحكومة السياسيّة عن طريق خطوات وتشريعات وتصريحات تكرّس سيطرتها وسطوتها التي تنتهي في نهاية المطاف إلى سيطرة متواصلة على العامّة، أي على المواطنين وإبقائهم في حالة من انعدام الأمن الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، ما يجعلهم يقبلون سيطرة الجهة التي تهدّد أَمنهم، ولو بشكل غير مباشر وغير صريح، وحتى لو كان بواسطة شعارات رنانة وشعبوية تتحدّث عن القائد الأَوحد والنصر وإنقاذ البلاد والعباد، بمعنى "تهديد" المواطن العادي بأن عدم الانسياق وراء سياسات وتشريعات وقرارات حكومة ما ،حتى لوكان لا يعتبرها صحيحة وعادلة وقابلة للتطبيق، سيعرّضه للخطر، أو للعقوبات، وهو ما فعله مثلًا بتسلئيل سموترتيتش الذي قرّر معاقبة السلطة الفلسطينية رغم إعلان رئيسها محمود عباس، مرارًا وتكرارًا أن ما يريده الشعب الفلسطينيّ، وما يحتاجه هو ليس المزيد من الحروب والويلات ، بل إن ما يجب أن يحركه هو الرغبة في كيان مستقلّ وحياة كريمة، جرّاء ما فعلته حركة" حماس"، أو جراء قرارات اتخذتها دول أوروبيّة للاعتراف بدولة فلسطين، وكأنه يقول للسلطة إن عدم قبولها مواقف الحكومة الحاليّة، وتحديدًا توجّهاته التي يؤمن بها ويؤكّد في كتاباته رغبته الصادقة في تنفيذها، ومنها إقامة خمس مدن يهوديّة في الضفة الغربيّة، وتكثيف الاستيطان ومنع هدم بؤر استيطانيّة غير قانونيّة يهوديّة، وذلك رغبة منه في بسط السيطرة وامتلاك المزيد من القوة والسلطة ، وهو ما يتّضح من خطوات أخرى اتّخذها تتعلّق بدعم من يتساوق مع مواقفه، ومنحه المال والدعم خاصة من المستوطنين الذين ينفذون سياساته في الضفة الغربيّة ومناطق في النقب وغيرها، مقابل تقليص ميزانيات من لا يؤيّد مواقفه، وحتى إلغاء بعضها كما فعل مع الميزانيّات المخصّصة للمجتمع العربيّ على اختلاف أطيافه، وهنا أحد أوجه الشبه بين السياسّي والمافيا، وفق ليوناردو شاشيا، الذي لا يعتبر موضوع المافيا موضوعًا جنائيًّا أو غيره، بل موضوعًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلطة والسياسة، فالهدف الأكبر لرئيس المافيا ليس جمع الأموال، بل مراكمة السلطة الاجتماعيّة، ربما وصولًا إلى السلطة السياسيّة مباشرة، أو بشكل غير مباشر، وبالتالي فإن السعي إلى امتلاك القوة ومواصلة السيطرة هو أمر مشترك بين السياسيّ ورجل المافيا، الذي يهدّد صاحب مصلحة ما عبر القوة والبلطجة، بغية ابتزازه وإجباره على القيام بخطوات لا يريدها، لكنّه يوافق عنوة عليها عبر القوة التي يستخدمها رجل المافيا الذي يقوم بفعل ذلك مع وعيد وتهديد وزعران وسلاح، والضحيّة تعرف جيّدًا ماذا ينتظرها إذا رفضت، أمّا السياسيّ فإنه لا يحتاج إلى القوة الجسديّة والتهديد والوعيد المباشر بأسلوب المافيا، لضمان السيطرة والسلطة، وإبقائها بين يديه ورهن إشارته، يملك وراءه، أو رهن اشارته وبين يديه قوة الدولة من خلفه، بما فيها قوّات الشرطة والجيش والسلطة التشريعيّة أحيانًا، ويملك ميزانيّة الدولة التي بواسطتها يحكم رقاب المواطنين، ويقرّر من يحصل على الدعم ومن تتمّ معاقبته، وذلك عبر فرض الضرائب والقيود، أو تدفّق الأموال على أولئك الذين يرضى عنهم السلطان.

 وبالتالي فإن شاشيا يضع المافيا والسياسيّين، مع الفارق بينهما خاصّة من وجهة النظر في إيطاليا والتعاون بين الطرفين أحيانًا، يضعهما في خانة واحدة وفي نفس الموقع، فهما يسعيان للسيطرة بكلّ الطرق على قطاعات واسعة من الناس، سواء بوسائل خارجة عن القانون، أو بواسطة القانون والشرطة وقرارات وسياسيات وزاريّة وحكوميّة، بواسطة القانون وجهاز الضرائب والقاسم المشترك بينهما هو أن ما يعني السياسيّ أيضًا ، هو القوة السياسية ودوام الحكم، ويكاد المجتمع لا يعنيه، بل إن ما يعنيه هو السيطرة على المجتمع، أي أن السلطة ليست ولم تعد وسيلة لتنفيذ أجندات لمصلحة المواطن، بل إنها الهدف بحدّ ذاته ويتمّ تحقيقه في حالات كثيرة عبر تغليفه بأقوال أيديولوجيّة، براقة بهدف تضليل العامّة، في تعبير واضح عن حالة السياسيّ- المافيا، ولعلّ الأَمثلة المتراكمة في السنة الأخيرة عامّة، ومنذ السابع من تشرين الأول عام 2023 خاصة، وعلى الصعيدين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، تؤكّد القيادات في الطرفين لا تسعى لتحسين وضع المواطن ، والتخفيف من الأَعباء المتراكمة عليه، بل إنها تسعى للسيطرة عليه.

إسرائيليًّا بدأت الحكومة الحالية عهدها بالانقلاب القضائيّ، أو الأَصّح الدستوريّ، الذي هدّد الاستقرار الاجتماعيّ واللحمة الداخليّة والنسيج الإنسانيّ الداخليّ، وهزّ أركانها ودعا متطوّعين في سلاح الجوّ خاصّة وقوات أخرى في الجيش إلى اعلان وقف التطوع، وأثار احتجاجات عارمة استمرّت نحو عشرة أشهر، أوقفتها الحرب التي أعقبت السابع من أكتوبر، وتخلّلها إعلان شركات كبرى عالمية وقف استثماراتها في إسرائيل بل سحبها، ما ألحَقَ بالاقتصاد الإسرائيليّ خسائر تقدّر بعشرات مليارات الدولارات، وكلّها خطوات لم تتوقّف الحكومة عن تنفيذها وممارسات لم تتنازل الحكومة الحاليّة عنها، رغم السابع من أكتوبر والصدمة التي أحدثها، وبالتالي أقرت ميزانيّة سيّئة ذهبت مليارات كثيرة منها إلى أغراض سياسيّة ائتلافيّة، واغراض حزبية لا تعود بالفائدة العلميّة، أو الصناعيّة، أو الإنسانيّة على الدولة، حتى أنه يمكن القول إن الحكومة الحاليّة عامّة، وبموافقة وزير المالية المذكور سموتريتش، تواصل المسّ بالبلاد واقتصادها عبر سرقة ميزانيّة الدولة، ما أضعف مكانة إسرائيل العالميّة اقتصاديًّا وتقنيًّا، وانتهى إلى خفض التصنيف الائتمانيّ للدولة، وتهديد واضح بخفض آخر، إذا لم ترتدع الحكومة عن سياساتها الماليّة والاقتصاديّة، إضافة الى سياسات وتصريحات تتعلّق بالحرب وغيرها تضعف مكانة إسرائيل الدوليّة والعالميّة دفعت بدول إلى إعلان حظر توريد الأسلحة إليها، وبأخرى إلى سحب سفرائها وقطع العلاقات الدبلوماسيّة معها، وقرارات من محكمة الجنايات الدوليّة تتعلّق بأوامر اعتقال ضد قياداتها ورغم ذلك فإنها تواصل الحرب من جهة، وترفض التوصّل إلى صفقات لتبادل الرهائن، بمعنى القبول بسفك دماء جنودها ومواطنيها، وما يرافق ذلك من ازدياد للشروخ الداخليّة التي تضعضع السياسة والمجتمع في إسرائيل. ويكفي الإشارة إلى تصريحات لوزير الماليّة يهدّد فيها المواطنين، بل يبتزّهم ربما، خاصّة ذلك التصريح الذي قال فيه، إن مكافحة غلاء المعيشة وتجنيب المواطنين دفع الأَموال الطائلة مقابل خدمات أمكن للدولة توفيرها بأسعار معقولة، ليس في سلّم أولويّاته، ومن هنا فإنه لن يكافح ارتفاع الأسعار وارتفاع غلاء المعيشة، إلا بعد إنجاز سياسته الخاصّة والتي يريد منها تعزيز قوته وسلطته ومكانة حزبه وائتلافه، والتي تتلخّص بقوله بأنه سيقوم بمواجهة ومعالجة غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتدهور المكانة الاقتصاديّة للدولة بكافّة مركّباتها، فقط بعد أن يُنهي الجيش الإسرائيليّ معالجة قضية رفح وتدمير "حماس". وهي أهداف يعترف القاصي والداني أنها لن تتحقّق سريعًا، فالمتفائلون يتحدثون عن نهاية العام الحاليّ 2024 .

ولذلك تم تمديد سريان تعليمات وأنظمة الطوارئ حتى نهاية هذا العامّ، بينما يؤكّد كثيرون أن هذا الأَمر سوف يستغرق سنوات، وبالتالي فإن سموتريتش يمارس نشاطات قوامها إِجبار المواطنين على قبول أُمور لا يقبلونها عادة، وذلك بفعل التهديد والوعيد، أي التسليم باستمرار الحرب واستمرار الغلاء والاحتكارات الاقتصاديّة، إضافة إلى سياسات أخرى تشمل الحدّ بالتهديد وبواسطة قوة الدولة، أي الشرطة، من حريّة التعبير، واستخدام العنف ضد المتظاهرين، وفي ما رشح عن تصرّفات للوزيرة ميري ريغف وزيرة المواصلات من تفضيل للمقربين واستخدام السياسة ليس لخدمة المواطنين، بل للحصول على مزيد من السيطرة والسطوة، مثال آخر ربما يضاف إليه ما اتّضح من أن رئيس الوزراء يعمل على تعزيز الحراسة والحماية حول منزله، منعًا لاقتراب المتظاهرين والمحتجّين إليه، بينما يواصل مئات آلاف المواطنين العيش خارج منازلهم بفعل أوامر إخلاء أصدرتها الدولة في الشمال والجنوب، وإلى ذلك يضاف استخدام الحكومة الوسائل السياسيّة، وتحديدًا تشريعات لضمان سيطرتها وائتلافها ومنها قانون الخدمة العسكريّة الجديد، والذي يسميه كثيرون قانون الإعفاء من الخدمة لليهود الحريديم، وهم بيضة القبان في ائتلاف اليمين الحاليّ، وتحويل ميزانيّات إلى شبكات مدارسهم المستقلّة رغم قرارات اتخذتها سلطات الضرائب تشمل عقوبات لتجاوزات إداريّة وماليّة خطيرة، وكلّ ذلك لضمان استمرار الائتلاف.. أي سياسات لضمان حيازة مزيد من السيطرة على المواطنين كافّة خاصّة أولئك الذين لا تروق لهم سياسات الحكومة وتوجّهاتها.

لدى "حماس" الأمر لا يختلف، فاستمرار رفضها لأيّ صفقة للتبادل، ورفضها إعادة الرهائن الإسرائيليّين، رغم ترحيبها يوم الثلاثاء بقرار مجلس الأَمن الدولي ، والذي طرحته أمريكا، والداعي إلى وقف الحرب ، وبالتالي استمرار الحرب رغم ما سببته من ويلات وعشرات آلاف القتلى أطفالًا ونساء وغيرهم، فإنها تقبل باستمرار العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة، رغم إدراكها أن سكان غزة والذين هي سلطتهم الفعليّة سيدفعون الثمن، وهم الذين كانت "حماس" تعرف أنهم سيدفعون الثمن قبل هجمات السابع من أكتوبر .

ورغم ذلك قامت بتلك الهجمات، لخلخلة وزعزعة الأَوضاع وخلق الفوضى، وقلب الموازين، والتشويش المطلق على الوضع، أي أنها قبلت التضحية بأمن ومستقبل وحياة سكان القطاع، لا لأمور تصبّ في مصلحتهم، أو هم يريدونها، بل لأسباب خاصّة بها، فهي بقيادتها تريد ضمان سيطرتها وإطالة أمدها في غزة عبر جولة عسكريّة أخرى تنتهي إلى دمار وخراب وفقر يجعلها تطيل الإمساك بتلابيب المواطنين هناك والتحكم بمصيرهم وابتزاز ولائهم لها، فهي تجبرهم بتهديد السلاح، الموجّه ضد إسرائيل، على تسليمها أموالهم ومستقبلهم والتنازل عن طموحاتهم وربما حياتهم، التي تتحوّل إلى مكاسب سياسيّة ، "حماس" هي نسخة حديثة للجريمة التي ترتكب باسم السياسة، أو لمافيا السياسة، فالمواطن الغزي خاصة والفلسطيني عامة لا يعنيها ومن هنا فمعالم سياستها أولها عدم الاهتمام بالسكان، الذين باسمهم يتحدّث الزعماء، فالميزانيّات التي تم تخصيصها لبناء أنفاق أمكنها أن تصبّ في مصلحة المواطنين ورفاهيتهم العلميّة والأكاديميّة والإنسانيّة والاقتصاديّة وتحسين ورفع مستوى حياتهم، ناهيك عن أن قرار الخروج إلى هجمات السابع من أكتوبر من جهة، واستمرار الحرب حتى اليوم، لم يتم اتخاذه من قبلهم، ولم يتم سؤالهم ما إذا كانوا يريدون مواجهة عسكريّة إضافية مع إسرائيل نتائجها على الأرض واضحة، ومسبّباتها واضحة، فهي سياسيّة ضيّقة حتى لو تمّ تغليفها بتصريحات أيديولوجيّة فارغة ودون رصيد، كما هو استمرار الحرب في إسرائيل ورفض الصفقات فهي قرارات تتخذها الحكومة المنتخبة، وهذا صحيح، لكنها لا تتمّ بسؤال المواطنين، ويقينًا أن رغبات المواطنين في إسرائيل وفق الاستطلاعات على الأقلّ تخالف قرارات وسياسات الحكومة، ورئيس الوزراء الذي يؤكّد حتى مقربوه أنه يستخدم السياسة لمزيد من السيطرة والسلطة والبقاء في سدّة الحكم، ولعلّ تصريحات قادة "حماس" حول كون هجمات السابع من أكتوبر جاءت لمنع تصفية القضيّة الفلسطينيّة، بل أعادتها إلى الواجهة، تؤكّد أن هجمات السابع من أكتوبر كانت خطوة سياسية أرادت منها "حماس" تكريس سلطتها وسلطانها وسيطرتها، دون سؤال العامّة.

هذا الحديث عن العلاقة بين السياسة والجنايات، أو بين سياسة المافيا ومافيا السياسة يعيد إلى الواجهة الحديث عن أوجه الشبه بين التنظيمات المسلّحة وبين التنظيمات الجنائيّة، وهو حديث يتزايد خاصّة في أوروبا والعالم الديمقراطيّ، فكلاهما يعمل خارج القانون. يستخدم العنف والسلاح والتهديد لتحقيق أهدافه وبسط سيطرته والأَمثِلة كثيرة منها ما حدث في سوريا والعراق خاصّة تنظيم داعش، بمشاركة عناصر أجنبيّة انضمت إليها. وما حدث في سيناء وكذلك غزة والعنف والترهيب الذي تمارسه "حماس" ضد كلّ من لا يسير في ركبها، وكلّها حركات دينيّة أصوليّة، وكذلك الحركات اليمينيّة المتطرّفة والاستيطانيّة في الضفة الغربيّة، والتي تمّ تعريف بعضها على أَنها منظّمات محظورة، أو منظّمات إرهابيّة وفرض القيود على قادتها، كما حدث مؤخّرًا من قبل بريطانيا والولايات المتحدة ، فكلتا الحالتين فيهما تطابق من حيث ابتزاز ولاء المواطنين وإخلاصهم بالتهديد والوعيد والسلاح، وفرض العقوبات الماليّة بمعنى منح الدعم الماليّ من "حماس" مثلًا للموالين لها فقط، وكذلك في المناطق التي سيطرت عليها داعش وغيرها، وتدفق الأموال على الجماعات الاستيطانيّة الموالية للحكومة الحاليّة دون غيرها.

خلاصة القول هنا أن السياسة الدوليّة والإقليميّة خاصّة في الأَمثلة الثلاثة التي أوردناها، تتشابك خيوطها وتتشابه أوجه عملها ونشاطها أحيانًا مع سياسة المافيا التي تبتز من هو أضعف منها، أي المواطن العادي بتهديد السلاح، وتجبره على تنفيذ أجنداتها، اما مافيا السياسة فتفعل ذلك بوسائل ناعمة كالضغط الماليّ والقانونيّ والتشريعيّ والإعلاميّ، وبالتالي فهما سيان. وما دام الحال كذلك فإِن الخاسر الأكبر هو الفرد والمواطن، والمصلحة السياسيّة والفئويّة الضيّقة. أمّا المصلحة العامّة فموضوعة على الرفّ حتى يقرّر السياسيّون وقف ممارسة مافيا السياسة، أي العودة إلى سياسة تخدم المواطن ولا تجعله وسيلة لتحقيق غايات سياسية في حالة الدولة، أو تجعل حياته ثمنًا لأجندات متطرّفة ومافيا السياسة للتنظيمات المسلّحة التي تجعل المواطن بالنار والحديد وقودًا لمآربها، في تطبيق خطير لا يرحم، للمبادئ الأساسية للفكر السياسيّ المكيافيليّ الذي يقول إن الغاية تبرر الوسيلة، وحيث أن الحاكم ، خاصّة وأَن حكام مافيا السياسة، يعطون الأولوية للحفاظ على سلطتهم وتوسيعها وتعزيزها، حتى لو كان ذلك بواسطة خطوات غير ديمقراطيّة وربما غير سياسيّة وربما يشوبها عيوب أخلاقيّة. وهذا هو حال السياسة اليوم، فهي مافيا سياسة تبدأ بالوعود والعهود، وتنتهي في أحيان كثيرة بتجاهل المواطن، أو تهميشه، ثم تبرير ذلك بدبلجات كلاميّة، عملًا بالقول الساخر لوينستون تشرتشل:" إن السياسيّ الجيّد هو ذاك الذي يمتلك القدرة على التنبّؤ، والقدرة ذاتها على تبرير لماذا لم تتحقّق نبوءته"... فغايته السيطرة، وهي تبرّر كلّ وسيلة، ولنعود أيضًا إلى ما قاله الأديب ميخائيل نعيمة:" قبل أن تفكروا بالتخلّص من حاكمٍ مستَعبِد، تخلّصوا ممّا يستبِد بكُم من عادات سيّئة وتقاليد سوداء. ما تفهَمُه من كلامِي فهو لك، وما لا تفهمه فهو لغيرك".