يوسف أبو جعفر يكتب : حتى نلتقي - ذاكرة
بالأمس قمت بتبديل هاتفي الخلوي، كان من السهل أن استلقي جانبًا وأترك للهاتف القديم والجديد منصة الحديث بينهما بعد التعارف الأولي لينطلقا في ترتيب المهمة، ثم ليتناغما على مدى ساعتين ونيف نقل المعلومات،
يوسف أبو جعفر - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت
ما إن انتهت المهمة حتى شعرت بالسعادة، فالهاتف القديم لم تنته صلاحيته بعد إلا أنه أصبح يعاني من هلوسات الزمن، فقد زادت أحماله وبدأ بالشكوى متمثلة حينًا بالبطء الشديد وحينًا أخر يتوقف ويغلق جميع التطبيقات ويدخل في سبات لدقائق معدودة، المشكلة أن هذه اللحظة قد تبدو دهرًا، وفي كل مرة يقرر العودة إلى الحياة ما يقلقني هو المعلومات الذي تحتويه، فأنا كغيري لا أحتفظ بالمعلومات المكتوبة.
المهم أعلن الهاتف الجديد أنه جاهز للعمل سوى من بعض التصريحات كي يتأكد أن الذي أمامه الان لا ينتحل شخصي أو معلوماتي، في النهاية شعرت بارتياح فقد عاد كل شيء إلى موقعه، ولم تختف أيً من المعلومات، ولكن لحظة من فضلكم، كان من الممكن ذلك ولذلك كنت حذرًا ألّّا استغني عن القديم إلا بعد ساعات أيقنت فيها بكل سرور أن الأمر على ما يرام.
عندما أدركت أني أجلس في المنطقة الأمنة وأن كل معلوماتي معي سعدت، فهاتفي يتذكر أدق التفاصيل التي طلبت منه أن يتذكرها، صوري، مقالاتي وخواطري، خربشاتي، ما تصفحته، ذكرياتي ، وما مضى من تعاملي مع الهاتف، والحقيقة أن كل شيء هنا وفي الظاهر أني أتحكم فيه، ما زالت أصابعي تجري بين الأحرف بفرح، فقد كان الخوف يعتريني لو حدث مكروه، كان من الممكن أن تختفي معي هذه المعلومات، للحظة كان من الممكن حدوث ذلك، في عصرنا هذا وكأن اختفاء المعلومات هو الاختفاء الشخصي، لا تملك لحظات السعادة من مولد الأبناء، ولا التخرج من الجماعه كل شيء.
ولكن لحظة من المؤكد أن كل هذه المعلومات في الغالب لا تسكن هاتفًا بهذا الحجم، ومن المنطقي أنها في الغيوم "الكلاود" ولكن من يملك هذا " الكلاود "؟ من يقرر أن يعطيك إذنًا بالمرور وتصفح حياتك مصورة موثقة بأدق التفاصيل؟ أليس من الغريب ومن الممكن أن يقرر أصحاب المواقع المختلفة حجب حياتك وما مضى منها، ذكرياتك وغيرها، أصبح العالم رقميًا بكل المعاني، سنقترب من مرحلة لا نملك فيها محسوسًا سوى بعض الأشياء وكل شيء يتحول إلى أشياء تتحرك أمام أعيننا، دون أن ندرك معنى الخطر.
من الممكن في عالم حروب السايبر أن تهاجم هذه المواقع ويمسح ما فيها، الدول قد تستولى ليس على المعلومات بل تدميرها لتمسح تاريخ الناس وكل المعلومات البشرية، لذلك نحن نشعر بالأمن المزيف، الثورة الرقمية حالة فريدة لو أدركنا خطورتها علينا كأشخاص سندرك حجمها كمجتمع، فسهولة حصولي على ذكرياتي كان من السهل أيضًا أن تختفي.
شيء وحيد لن يحصلوا عليه في جميع الأحوال وهو الذكريات التي علقت في الذهن ولم تجتمع ربما في صورة أو كتابة، هذا الذي في ذاكرتنا الذي تسكنه المشاعر، فكل صور العالم لا تصف لحظة إنجاز أو فرح، أو حُب.
ما أخشاه فعلًا هو هذه الثورة الرقمية وسيطرتها على كل شيء وقدرتها على محو كل شيء، زد على ذلك قدرتها مع كل الذكاء الاصطناعي سوف يستطيع البعض زرع ما يشاء من كذب أو تزييف وكأنه الحقيقة، لا أملك الإجابة حول ماذا كان سيحدث لي لو اختفى هذا الكم الهائل من المعلومات.
وحتى نلتقي، سعيد أنا أني ما زلت امتلك قسم من حياتي، وسعادتي مشوبة بالخوف فإنا في الحقيقة امتلك فقط ما في ذاكرتي وليس في ذاكرة الكلاود، وذاكرتي تملك الصورة والصوت وتمتلك الأحاسيس والمشاعر، وفوق ذلك كله الشوق الذي لا يمكن وصفه لمن نحب، للغائب، للمسافر لمن غادر الدنيا، الشوق الذي يأبى إلا أن يبقى مشتعلًا في صدورنا لا يعرف الزمن، يبقى حارسًا على ذكرياتنا وهو خير من كل برامج الحماية المختلفة.
من هنا وهناك
-
المحامي زكي كمال يكتب : حديثٌ في المُتَوَقَّع من رئيس غير مُتوقَّع
-
‘ التغذية الراجعة أساليب ومفاهيم ‘ - بقلم: د. غزال ابو ريا
-
‘المسرح والتمثيل كأسلوب تعليمي‘ - بقلم : خيرالله حسن خاسكية
-
مقال: ما الّذي علينا فعله عندما يقع أولادنا ضحايا لأحداث تنمّر (العنف) ؟ - بقلم : رانية فؤاد مرجية
-
‘الجريمة تقتلنا كل يوم - المسؤول الاول والأخير حكومة إسرائيل‘ - بقلم : المحامي شعاع منصور رئيس بلدية الطيبة السابق
-
المحامي زكي كمال يكتب : المجتمعات الطامحة إلى الحياة يقودها الكرام والشرفاء
-
د. محمود أبو فنة من كفر قرع يكتب في بانيت : قراءة في كتاب ‘الصورة الكاملة – صفحات من سيرتي الذاتيّة‘
-
د. سهيل دياب يكتب : أمريكا لم تصوت لترامب - انما عاقبت بايدن وهاريس !
-
المحامي يوسف شعبان يكتب : مقترح سن قانون لمراقبة اجهزة الهواتف والتنصت عليها مهزلة يجب الوقوف ضدها
-
مقال: هل أمريكا العظمى في طريق الانهيار مثل الاتحاد السوفيتيّ ؟ بقلم : المحامي زكي كمال
التعقيبات