ناجي ظاهر - صورة شخصية
تعملها، فقد كان كلما وقعت عينه على خطأ او خُيّل اليه انه خطأ، يضع يديه على خاصرته ويرسل نظرته عبر نظارته الطبّية لائما ومحذرا: ":مش هيك بتصير الامور. مرة ثانية مش راح اسكت.. انتوا مش ولاد صغار".. وكان يستعمل اللغة الفصحى ليقلع بها عيون معرفتنا: "ها انذا قد انذرت.. وقد اعذر من انذر. لا ملامة علي اذا ارتكبت غدا حماقة قد تجعلكم تندمون عليها وعلى سببها التافه".
اما نحن فقد ابتدأنا بتقبّل وقائع مديرنا الحربية معنا، اولا بأول.. حتى باتت واحدة من عاداته اليومية، الغريب انه كان بين الفترة واختها يمسك شلّ واحد منا، والطريف انه ابتدأ بأضعفنا، فنزل عليه لوما وتقريعا امام الجميع، الامر الذي ترك اثره الواضح علينا.. وقد استمعنا اليه وهو يقول هكذا بإمكاني ان اقول لكم إنني علمتكم درسا لا يمكن نسيانه بسهولة.. درسا سيريحني قليلا من التعامل الصعب مع حماقاتكم الكثيرة.
"لن يريحه هذا"، قال اكثرنا جرأة واقداما، صحيح اننا نحن بحاجة إليه لكنه هو ايضا بحاجة الينا، وحتى لو انه يشغّلنا تكرما وتمنًا، فانه لا يحق له ان ينتقص من كرامة اي منا، وشد على يده مصرا على اسنانه المتراصة وراء شفتيه كاللؤلؤ المنضود:" عليه ان يعلم ان هناك فرقا بين ادرة العمل بصرامة وبين الاهانة"، وطلع عن طوره وهو يهز يده تعبيرا عن غضبه الجارف: احنا مش ولاد مرته.
في اليوم التالي مباشرة، جاءنا مديرنا فارعا دارعا، وراح يتهدّد ويتوعّد: لازم تعرفوا إنا بنشتغل في مؤسسة محترمة والها اسمها النظيف. انا مش ممكن اوافق على فلسفات البعض لما بفرق بين الصرامة والاهانة.. لا بالله.. بعدين انا بدي اعرف مين المدير هنا.. انا.. والا هو؟ ما إن قال هذه الكلمات وولّى، ربّما كي لا يستمع الى اي ردّ منا، حتى نظر كلّ منّا في وجه الآخر، كأنما هو يريد ان يسأله عمّا اذا كان هو الواشي.. ورنّت كلمات المدير عن الصارم والواشي في اذاننا رنين اجراس بلدتنا عندما تنطلق صاخبة بعد موت احد ابنائها.
بعد هذه البهدلة، وذلك الشك، لم ننم في الليل، فراحت التلفونات ترنّ في بيوت كلّ منا، مَن تُراه الواشي؟، وهل نحن نعيش في امن وامان.. ام لا، الخائن يجب ان يلقى عقابه، هذه المرّة لن نترك الامر لبهدلات مديرنا، بل ان احدنا دق على صدره قائلًا: انا من سيعلّمه درسا لن ينساه.. الخيانة هي خط احمر ولا يمكن ان نسمح بها.
في الايام التالية ازدادت تهديدات مديرنا وتوعّداته، غير اننا لم نُعرها اي اهتمام، فقد تجاهلناها وضمرنا بيننا وبين انفسنا، على ان نُعلّم ذلك الواشي درسا.. يتّعظ به ذاك الصارم ويتعلّم منه .. ويكون بذلك عبرة لكل مَن تسوّل له نفسه ان يخون اخوان العيش والملح، وان يعرّضهم للمزيد من الاهانات الادارية من المدير القاعد في العلية.
هكذا ابتدأنا في رحلة البحث عمّن نقل الحكي ووشى بنا، وكنا كلّما توصّلنا الى طرف خيط، تفلت منا خيوط، وبقي الامر على كفّة الريح هذه، الى ان اقمنا اجتماعا مطبخيا (في المطبخ)، واتخذنا فيه اغرب اقتراح، لكن انجع اقتراح كما تم الاجماع، وقد قضى هذا الاقتراح بأن يدلي كلّ منا بالقسم العظيم انه بريء ولا علاقة له بتلك الوشاية اللعينة. وزاد مُقدّم الاقتراح في كيله.. قائلًا: انا اول مَن سيدلي بقسمه.. بعدها همس في اذن كل منا على حدة قائلا انه قصد بذلك، ان يضع كلًّا منا في مواجهة مع ضميره، وعندما اعترض احدنا قائلا انه يوجد هناك مَن لا ضمير لديه. ارسل ابتسامة ملأي بالرقة واللطف والايمان الشديد وقال: لا يوجد على وجه البسيطة انسان لا يوجد لديه ضمير.. ثم انها محاولة.. يا اخوان.
في الموعد المحدّد لأداء القسم، احضرنا الكتب المقدسة كلها.. احضرنا القران الكريم والتوراة بعهديها القديم والجديد، وتقدم مقدم الاقتراح ليؤدي قسمه، بعده تتالينا واحدا تلو الآخر.. وكان كلٌ منا يتقدم من طاولة وضعناها في وسط المطبخ.. بعدها يضع يده على الكتاب، فاذا كان مسلما وضع يده على القران الكريم، وإذا كان مسيحيا وضع يده على العهد الجديد، اما اذا كان يهوديا فقد كان يضع يده على العهد القديم. واعترف ان قلوبنا كانت كلّما تقدم احدنا لأداء قسم البراءة.. واداه بالفعل.. كانت قلوبنا ترتجف بين ضلوعنا.. وعندما أدى اخيرنا قسمه.. رحنا نتساءل:" إذا كنّا جميعا بريئين، مَن هو الواشي؟"، وقبل ان نتوصّل الى اي جواب، حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد فاجأنا مديرنا في اليوم التالي بنظرات الاتهام وهو يتمتم: تؤدون قَسم البراءة على كلّ الكتب المقدّسة.. ها؟ ما إن استمعنا الى هذه الكلمات يقذفها مديرُنا في وجوهنا كأنها حِممٌ بركانية، حتى راح كلّ منّا يتمعّن في وجه الاخر.. كأنما هو يشكّ فيه.. ويتّهمه.. كان الموقف صعبا فرحنا نتخبّط في سين وجيم.
بقينا على هذا الحال من التخبّط، الى ان جدّدنا اجتماعنا المطبخي، وراح كل منا يتساءل اذا لم تكن انت ولم يكن هو ولم اكن أنا.. مَن وشى بنا في المرة الاولى وفي المرة الثانية وربّما في المرة الثالثة غدا، مَن هو الواشي، وتعالت الاصوات اننا نكاد نجنّ. عندها دخل الاجتماع في حالة من الفوضى، ولم يهدأ الا حينما عثرنا على حلٍّ قد يكون مُرضيًا لنا جميعا، علينا ان ننقسّم الى مجموعتين، واحدة في الداخل وواحدة تختبئ في الخارج قُبالة باب المطبخ. لمراقبة ما يحدث. واتفقنا بسرعة غير معهودة منذ ابتدأت معركتنا مع مديرنا، على منطق.. مُفاده لنفعل هذا فإننا اذا لم نربح لن نخسر.
حملنا كراسينا وطاولاتنا وشرعنا بإدخالها الى غرفة المطبخ، ودخل بعضٌ منّا للاجتماع هناك، ورحنا نتباحث فيما يمكننا للتخلّص مما وجدنا انفسنا فيه من وضعٍ مُزرٍ، فمِن ناحية مدير صارم يتهدّدنا على الطالع والنازل، ومِن اخرى واشٍ ينقل اليه اخبارنا اولًا بأول مسهلًّا عليه التمادي في غيّه، ولم تمض سوى دقائق، حتى استمعنا الى زعيق وصراخ في الخارج، فخرجنا من مطبخنا لنفاجأ بأغرب موقف يمكن ان يتصوّره انسان، كان ابطالنا الميامين قد القوا القبض على مديرنا المُبجّل وهو يتنصت علينا في مطبخنا، واضعا يده على اذنه لئلا تفوته اي كلمة، والأخرى على الباب لئلا يفتحه احد فيفاجأ به. المنظر امامنا كان ساحرًا ومبهرًا.. وكان اضعفنا يشدّ مديرنا من اذنه.. وهو يهدّده متوعّدا اياه بألا تأتي العواقب سليمة اذا ما اعاد تنصّته المخزي علينا..