المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت
وهو بمثابة جمر تحت الرماد تكفي نسمة ريح لإشعاله، أو مارد ينتظر إشارة، أو ظروفًا مواتية لينطلق من قمقمه، والأدلة على ذلك كثيرة وتزداد، منها الامتناع عن عقد جلسات للجنة تعيين القضاة، وشطب أسماء بعض القضاة من قوائم المرشّحين للترقية بسبب مواقفهم وقراراتهم التي يعتبرها اليمين المتطرّف، ويمثّله اثنان من أعضاء اللجنة التسعة، متساهلة ويساريّة وغير متشدّدة، أو متطرّفة بما يستجيب لذوقه ونزواته، واستمرار التشريعات الهادفة إلى تقزيم دور القضاء والجهاز القضائيّ، ومنح السياسيّين سيطرة تامّة على التعيينات من جهة، وكمّ أفواه المعارضين عامّة والمواطنين العرب خاصّة، وترهيبهم عبر تشريعات تتيح محاكمة واعتقال، بل وفصل كلّ مواطن أو معلم منهم، يكتب منشورًا تُشْتَّم منه رائحة التحريض، وغير ذلك من تشريعات. وصحيح أن المظاهرات الشعبيّة التي استمرّت أكثر من ثمانية أشهر ضد الانقلاب توقّفت لكنها لم تمُت، بل تم استبدالها بتلك التي تطالب بانتخابات جديدة واستقالة الحكومة الحاليّة بسبب أحداث السابع من أكتوبر، وإعادة المحتجزين في غزة، وليس ذلك فقط، بل إن ما تم الكشف عنه من تسجيلات معيبة وخطيرة لمحادثات بين الرئيس السابق لنقابة المحامين في إسرائيل إيفي( إفرايم) نافيه، ورئيس المحكمة المركزيّة في تل أبيب سابقًا القاضي يورام أورنشتاين ، ومضمونه حول تنحية قاضية ما ومنعها من معالجة ملفّات، أو البتّ في قضايا يتولّى المحامي نافيه المرافعة فيها، يؤكّد أن الانقلاب القضائيّ كان قد بدأ عمليًّا قبل الإعلان عنه رسميًّا، وأن سيطرة أصحاب المناصب العليا على الجهاز القضائيّ، ومنهم رئيس نقابة المحامين المذكور الذي ربطته بوزيرة القضاء السابقة أييلت شاكيد علاقات قريبة للغاية، وحاول اليمين في إسرائيل إعادته إلى منصبه في الانتخابات الأخيرة لنقابة المحامين رغم محاكمته الجنائيّة بتهمة "خرق أنظمة مغادرة البلاد"، ودوره في فضيحة الجنس مقابل التعيينات، كانت هدفًا بدأت المساعي لتحقيقه منذ سنوات، عبر علاقات مميَّزة وظاهرة للعيان، كان من المفروض في الحالات الطبيعية والسَوِيَّة أن تثير غضب واحتجاج المحامين كلّهم دون استثناء، باعتبارهم وفق التعبير القانونيّ، يحملون راية العدالة ويسعون إليها ، واحتجاج ورفض المحامين من المجتمع العربيّ خاصّة، فالجهاز القضائيّ في الدول الديمقراطيّة جاء لينصف الأقليّات والضعفاء، لكنّ تحويله إلى ساحة صراع للقوى السياسية وملعب يتنافس فيه أصحاب التأثير وصنع القرار، وجلّهم بل كلّهم في إسرائيل من اليهود، يجعله أسير مواقف وتوجّهات الأغلبيّة، ويجعل أيّ تغيير في اعتباراته ضربة لهم. لكنّ ذلك لم يحصل، إذ التزم الجميع من المحامين العرب وقادة الجمهور العربيّ الصمت ، كلٌ لأسبابه الخاصّة، فإما انتظار الفائدة الشخصيّة والحزبيّة عبر تعيينات ما في أحسن الأحوال، أو من باب الاعتراف ولو تلميحًا، إلى أن ما يحدث في جهاز القضاء لا يعني العرب من قريب، أو بعيد، فهو إسرائيليّ بل يهوديّ، وبالتالي لا مجال لتأثير العرب عليه، أو أنهم لا يريدون، أو أن القيادة البرلمانيّة تخلّت طوعًا عن دورها في التأثير عليه، تمامًا كما تخلّت عن دورها في التأثير البرلمانيّ الحقيقيّ، لتنحو بدلًا من ذلك إلى مواصلة نهج الغوغائيّة والشعارات والتقوقع في المعارضة، وصولًا إلى انطلاق الانقلاب القضائيّ، قبل أكثر من عام وتحديدًا مطلع كانون الثاني 2023، والذي كان صوتها كما صوت المحامين والمواطنين العرب خافتًا وغير مسموع وكذلك مشاركتهم في النشاطات الاحتجاجيّة والشعبيّة التي استمرت حتى اندلاع الحرب في غزة، ما يثير الأسئلة حول مدى فهم ووعي الفئات الثلاث سابقة الذكر، المحامين العرب والقيادة السياسية والمواطنين العرب، لخطورة الانقلاب القضائيّ، وخطورة اعتباره قضيّة يهوديّة داخليّة تدور رحاها بين يمين يهوديّ ويسار يهوديّ، أو بين الغربيّين الأشكناز من اليهود والشرقيّين منهم، أو بين علمانيّين ومتديّنين وغيرهم.
وإذا كانت الاحتجاجات ضد الانقلاب القضائيّ لم تثر ردود الفعل اللازمة في المجتمع العربيّ، وبين محاميه وقياداته السياسيّة، جاءت التسجيلات المذكورة والتي أكدت لمن شكّك في أن الانقلاب القضائيّ بدأ مناهضًا لليسار والمعتدلين والأشكناز، لكنّه سيصل أو يطال في نهاية المطاف كلّ من تسوِّل له نفسه، التفكير بإصدار أحكام وقرارات تهتم بحقوق الإنسان وحريّة التعبير، وأنه سيتوقف عند هذا الحدّ، ولن يطال القضاة العرب لمجرد كونهم عربًا، أو القضاة المعتدلين لمجرد كونهم كذلك. ولن يصل حدّ " صياغة التشكيلات القضائيّة للمحاكم، أو ترتيب جدول عمل القضاة وملفّاتهم التي يعالجونها بما يخدم أهداف عليا"، جاءت هذه التسجيلات لتثبت أن الخلل في الجهاز القضائيّ وصل ذلك، وأن هناك في رئاسة الجهاز القضائيّ من يدين بالولاء لمن ضمن تعيينه ومنصبه، وليس للعدالة والحقّ والإنصاف، بمعنى أن هناك من قبل وسيقبل حرف عربة العدالة والحقّ عن مسارها خدمة لولي أمره، أو صاحب السلطة . وليس صاحب الحقّ، وبالتالي كان من المتوقّع أن تثير هذه التسجيلات ردود الفعل الغاضبة عامّة وفي المجتمع العربيّ خاصّة، باعتباره أكثر المتضرّرين من الغبن القضائيّ والسيطرة السياسيّة عليه، لكن ذلك لم يحدث ما يستوجب تكرار السؤال ذاته الذي كنت قد طرحته عند انكشاف معالم الانقلاب القضائيّ، حول ما إذا كان المواطنون العرب قد سلّموا بكونهم مواطنين يستجدون حقوقهم ويقبلون بكلّ ما تفرضه السلطة، أو أصحاب السلطة من باب " والصمت أسلَم وأفضَل"، أو من باب عدم إثارة غضب المسؤولين، بل وربما مجاراتهم والقول إن القادم لن يكون أسوا مما كان، أو أن آثار الانقلاب لن تطال المواطنين العرب، لكن ذلك في نظري أضغاث أحلام سرعان ما سوف تتبدّد، وذلك انطلاقًا من حقيقة مؤلمة وواقع مرّ، وهو أن المجتمع العربيّ لم يؤسّس لنفسه مراكز أبحاث قضائيّة ذات قيمة، ربما على شاكلة مركز "كوهيليت" الذي قاد الانقلاب القضائيّ وأسّس له، أي مراكز لا تكتفي بمهمّة الدفاع القضائيّ والتمثيل في المحاكم عامّة ومحكمة العدل العليا خاصّة، بل تتعدّى ذلك إلى محاولة التأثير على صناع القرار والمُشَّرعين وصياغة، أو محاولة صياغة تشريعات جديدة، أو تعديل نصوص تشريعات مقترحة، أو ربما في حالة هي تعبير عن اللامبالاة أو الشعور بالعجز واتّخاذ موقع الدفاع والمُدافِع، أمام السلطة والخوف منها، أو من ردّة فعلها والصمت تجاه أفعالها. وهي حالة تؤكّد الأسابيع والأشهر الأخيرة أنها تتعمّق وتتعزّز بدليل الصمت شبه المطبق إزاء محاولات المسّ بحريّة التعبير والتظاهر، وفوق ذلك الصمت التامّ وعدم اتّخاذ أيّ خطوات، أو تنظيم نشاطات احتجاجيّة إزاء استفحال العنف وتسجيل أرقام قياسيّة من حيث عدد الضحايا ومدى انعدام الأمن الشخصيّ والعام، وسط صمت حكوميّ عامّ ومن وزارة الأمن القوميّ خاصّة، يمكن ربما اعتباره عدم اكتراث، أو ربما قبولا بالواقع.
" صمت سينفجر في وجه من يمارسه"
صمت المجتمع العربيّ بمحامييه وسياسييه وجمعيّاته، والاعتقاد الشائع لدى العامّة من أن ما يحدث على جبهة الجهاز القضائيّ لا يعنيهم ولن يمسّهم، هو صمت سينفجر في وجه من يمارسه، وهو صمت إزاء تسلّط ربما يبدأ بعيدًا عنهم لكنّه سيصلهم حتمًا، دون أن يجدوا حينها من يقف إلى جانبهم ويساندهم ويدافع عنهم، إذا لم يكن لهم دور فاعل وحقيقيّ وملموس وشجاع في كبح جماح ما يتم التخطيط له من مسٍّ بالجهاز القضائيّ وتسييس له وإخضاعه لأهواء السياسيين والنزعات اليهوديّة المتديّنة، وقبول كون إسرائيل يهوديّة وليست ديمقراطيّة أوّلًا، بل دولة لليهود تحكمها الشريعة اليهوديّة كما يريد اليمين المتديّن، في حالة تشبه حالة المثل الشهير" أُكلت حين أُكل الثور الأبيض"، أي حين صمت الثوران الأسود والأحمر على التهام الأسد لزميلهما الأبيض، ووعدهما بأن لا خلاف له معهما، ليأتي بعده التهام الثور الأحمر وبقي الأسود وحده ، فهو لم ينضم إلى المجهود الجماعيّ في البداية ليبقى وحيدًا في النهاية. والتاريخ حافل بالأمثلة على تصرّف البعض من جماعات وأفراد بشكل مشابه، حتى اصطدامهم بالواقع المرّ، كحال القس مارتن نيمولر، أحد مناهضي النازيّة الذي يقول في قصيدته الشهيرة "أوّلا جاءوا "، أن النازيين أتوا للاشتراكيّين وعملوا على اعتقالهم، ولم يتحدّث لأنه لم يكن اشتراكيًّا، ثمّ جاء دور النقابات العماليّة فصمت، لأنه لم يكن عضوًا في النقابات العماليّة، ثم جاء دور اليهود، ولم يتحدّث لأنه لم يكن يهوديًّا، وقوله في النهاية:" ثمّ بعد ذلك أتوا من أجلي، ولم يبق أحد ليتحدّث عني"، فهو سكت عن اضطهاد الألمان للآخرين طالما لم يكن ذلك موجّهًا إليه مباشرة، خاصّة وأن عددًا من أوائل ضحايا النظام في ألمانيا أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، كانوا من اليساريّين، أو الجماعات التي نيمولر يعارضها، وبالتالي ربما لم يكن يهمّه مصيرها اعتقد أن الأمر سيتوقّف عندها فصمت عن اضطهادها، لتكون هي الثور الأسود من المثل الشهير.
الصمت في المجتمع العربيّ إزاء الظواهر التي قد تلحق به الضرر، أو ألحقت وتلحق به الضرر ، ومنها مظاهر العنف والإجرام ، إضافة إلى تقليص الميزانيّات المخصصة للمجتمع العربيّ والانقلاب القضائيّ، الذي كانت ردود الفعل عليه مثيرة للاستغراب، بل القلق، هي ظاهرة خطيرة من حيث مفاهيم المواطنة، أو الطريقة التي يفهم المواطن العربيّ بها، حقّه المدنيّ كمواطن بل واجبه، ودوره كأقليّة أول من يتضرّر جراء إضعاف وتقزيم حريّة واستقلاليّة الجهاز القضائيّ، ودوره في الدفاع عن الأقليّات التي هي الأكثر احتياجًا لجهاز قضائيّ يحميها، وقوة جماهيريّة وبرلمانيّة تمنع تحويلها إلى كبش فداء، أو ضحيّة لنزوات سياسيّة لوزراء تحرّكهم أجندات سياسيّة ملخّصها حرمان المجتمع العربيّ من حقوقه وحريّاته، حتى وأن كانت مقلَّصة ومحدودة، تذكّرني بما قاله السلف وبعض العلماء، من أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فكم بالحريّ الساكت عن حقّه ، لكنّ الصمت إزاء الانقلاب القضائيّ والذي فسَّره البعض على أنه من باب الاعتقاد بأنها لا تمسّ بهم، خاصّة وأن بداياتها تحدّثت عن تشريعات يبدو لأوّل وهلة أنها بعيدة عنهم، ومنها حجّة المعقوليّة أو الأرجحيّة، ولجنة تعيين القضاة، وتعديل قانون التغيّب وهويّة رئيس المحكمة العليا، وتعيين المستشارين القضائيّين ، يستوجب الوقوف عنده والدعوة إلى إعادة التفكير فيه، فالتصدّي للانقلاب القضائيّ، وغيره من المواقف التي سنأتي عليها وتستوجب برأيي موقفًا واضحًا وشجاعًا من المجتمع العربيّ وسياسيّيه ومثقّفيه وإعلامية وكافّة شرائحه، تأتي من باب ضرورة التأكيد على المبادئ والمواقف لا تتجزّأ ، فإمّا أن تكون مع "المظلوم" أيًّا كان فكره وعقيدته ورأيه، أو أن تكون مع الظالم والظلم. وهنا على المجتمع العربيّ خاصةً ، أن يفهم أن الظلم الذي يطال فردًا أو جماعة في المجتمع المحليّ، أو الإسرائيليّ، أو حتى العالميّ، لن يتوقّف عند ذلك الحدّ، بل سيشمل آخرين، كما أنه عمليًّا يضع مبادئ وقيم الجماعات والمجموعات الباقية على المحكّ. وعليها أن تقف ضد الظلم، انطلاقًا من الإدراك أنها بهذا تقف مع نفسها أوّلًا، وأنها تدافع عن قيمها، كما تدافع عن غيرها من الجماعات التي ستمدّ لها يد العون إذا وقع الظلم عليها، بمعنى أن على المجتمع العربيّ في البلاد أن يفهم، أنه في كلّ قضية وشأن مُطالَبٌ باتخاذ موقف تجاه الظلم، أو الظالم فلا خيار ثالث بينهما، وبالتالي لا مكان للانتقائيّة في المواقف التي تكتفي بقول لا للظلم فقط، حين أو بعد ان يقع عليه أو على تياره، وهي حالة تكرّرت في المجتمع العربيّ إزاء أحداث السابع من تشرين الأول2023، والتي كان على المواطنين العرب إعلاء صوتهم ضدها وبشكل أوضح وأكثر شجاعةً، مع الإشادة بتصرّفهم المدنيّ والمجتمعيّ منذ السابع من أكتوبر، والتأكيد على أنها كانت عملًا مرفوضًا له من التبعات أسوأ ما فيها سواء كان ذلك على المواطنين العرب في إسرائيل، حيث كان المحفِّز وربما العذر، والسبب هنا لا يهمّ، بل النتيجة، للتضييق على حريّة التعبير وتشريعات تستهدف المواطنين العرب والطلاب الجامعيّين وجمهور المعلمين ، إضافة إلى القضاء بشكل نهائيّ على أيّ إمكانيّة سياسيّة وحزبيّة لمشاركة المواطنين العرب أفرادًا أو أحزابًا، في الحياة السياسيّة الإسرائيليّة. وكذلك اندماج المواطنين العرب في الشركات الصناعيّة الكبرى التابعة للقطاع الخاصّ، وربما مرافق القطاع العامّ الحكوميّ، وإلى ما سبق يجب إضافة التبعات الإقليميّة والدوليّة والفلسطينيّة الداخليّة، من حيث اقتراب حالة تصبح فيها الدولة الفلسطينيّة، أو الكيان الفلسطينّي ضمن أيّ حلّ سياسيّ مستقبليّ، ضربًا من المستحيل ، وربما إسدال الستار على أيّ إمكانيّة من هذا القبيل، والضرر الهائل الذي لحق بغزة على الصعيدين البشريّ وصعيد الممتلكات، ونزع الشرعيّة عن أيّ مطالب عاديّة حياتيّة، أو سياسيّة للفلسطينيّين في غزة، ومعها وقف المساعدات للفلسطينيّين الدوليّة منها والإقليميّة، وتحويل قطاع غزة إلى منطقة لا مقوّمات ولا إمكانيات للحياة فيها، ومنع أيّ احتمال لحلّ سياسيّ يمنح مواطنيها الحياة الكريمة.
إزاء ما سبق، وأقصد الحالة التي تعيشها الأقليّة العربيّة في البلاد من مظاهر إحباط وتقوقع وعدم الاهتمام الكافي بالشؤون العامّة، والتصرّف دون مبالاة لما يحدث حولهم، وهذا هو النقيض التامّ للتصرّفات المتوقّعة من الجماعات الطامحة إلى الحريّة والأمن والأمان والتقدم، فتلك جماعات نتوقّع منها أن تكون قادرة ومواظبة على الاحتجاج على أيّ ظلم، أو غبن أو تمييز من طرف عربيّ أو يهوديّ، أو آخر وعدم الصمت عليه، مع اختلاف إمكانيّات واحتمالات الاحتجاج، عملًا بقول مارتن لوثر كينغ، إن على كلّ شخص لديه قناعات إنسانيّة أن يقرر نوع الاحتجاج الذي يناسب قناعاته، لكن علينا جميعا الاحتجاج، بينما الصمت هو أفضل وأخطر تعبير عن حالة خطيرة مدنيًّا وإنسانيًّا، ملخصها أن مصدر الظلم لم يعد في الخارج فحسب، بل في داخل الجماعات المذكورة نفسها، عبر صمتها، أو قبولها سيرورة تاريخيّة تقودها إلى الجمود والتقوقع والقبول بالظلم والخطأ وعدم الاحتجاج عليه، باعتباره أمرًا خارجًا عن إرادتها وهي الحالة التي يسميها خبراء الاجتماع" حجّة السيطرة الخارجيّة"، وهي صفة تلازم المجتمعات الفقيرة والمتديّنة والتي تعاني نقصًا في الوعي، وتؤمن أن كلّ ما يصادفها في الحياة ، سواء كان إيجابيًّا أو سلبيًّا، إنما هو نتيجة لعوامل خارجيّة، أو قدرات إلهية، تُقْنِع تلك الجماعات نفسها أنها غير قادرة على تغييرها وتعديل مسارها، وصولًا إلى حالة يمكن توقّع نتائجها النهائيّة على ضوء معطيات ومعلومات توفّرت على مدار سنوات، يمكنها أن تتنبأ بما سيحدث، وهنا أعود إلى ما كنت قد كتبته منذ أعوام عن طبيعة الحرص المتبادل بين "حماس" وحكومات نتنياهو، وكون كلّ منهما يريد ضمان بقاء الآخر، وهو ما كان النتيجة الأولى للسابع من أكتوبر، من حيث إنقاذ نتنياهو من نتائج الاحتجاجات الجماهيريّة العارمة ضد الانقلاب القضائيّ، وصرف النظر عنه، وخلق حالة يمكن لحكومته اليوم أن تفعل في آنٍ واحد معًا، أمرين كان من المستحيل الجمع بينهما لولا الحرب، وهما ضمان استمرار ولُحمة الائتلاف الحكوميّ وإسكات الأصوات المعارضة فالدولة في حرب ومواصلة الانقلاب القضائيّ بوتيرة بطيئة وعلى نار هادئة، تحت رادار ضباب المعركة وغبارها، ومن الطرف الآخر حرب تتواصل بوتيرة تضمن بقاء "حماس" كسلطة وحيدة، بل السلطة الفعليّة في غزة، حتى لو تواصل وتحقّق الحديث عن بدائل لها لما بعد الحرب، فأُسسها متينة هناك وقدراتها السلطويّة والمدنيّة ما زالت قائمة، مقابل استمرار إضعاف السلطة الفلسطينيّة، وكلّها أمور ونتائج ، تراكمت منذ سنوات المعطيات والبيانات المعلوماتيّة التي تشير إليها وتؤكّد أنها ما سيكون، بمعنى أنها خطوات متواصلة كان من الواضح للمطّلعين عليها أنها ستقود إلى النتيجة الحاليّة، على الأقلّ وفقًا لنظرية بيتر تورشين، البروفسور الأمريكيّ (من أصل روسيّ) الذي يقول إن تفوّق العصر الحاليّ في مجال القدرة على الاستفادة من قواعد البيانات الضخمة سيمكّنه من إعادة النظر بكلّ طريقة كتابة وقراءة التاريخ وفهم تسلسله، والأهمّ من اكتشاف الأنماط المتكرّرة التي يمكن الاستناد إليها للتنبّؤ بحدوث موجات وحالات عدم الاستقرار والأزمات المجتمعيّة الحادّة، دون أيّ انحياز آيديولوجيّ، وربما خلق تعاونات وتوافقات بين النخب في تلك المجتمعات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، لاتّخاذ إجراءات احترازيّة قد تمنع وقوع الكوارث، كما جاء في كتابه "نهاية الأزمنة: النخب، والنخب المضادة، ومسار التفكّك السياسيّ"، علمًا أن تورشين كان قد أثار ضجة خارج الأوساط الأكاديميّة، عندما تنبّأ في لقاء مع مجلة "نيتشر" Nature العلميّة عام 2010، بوقوع اضطرابات اجتماعيّة كبيرة في الولايات المتحدة، بدءاً من بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، إذا لم تتعامل النخبة الأمريكيّة مع مسبّباتها، قد تؤدّي إلى انهيار الدّولة الأمريكيّة كما نعرفها. ما يعني أنه يشير إلى أن تراكمات معينة للأحداث يجب أن تنير الضوء الأحمر أمام صناع القرار ، وأن تنذر بعواقب وخيمة وعدم استقرار. وهي كلّها إشارات كانت واضحة في سياق الصراع بين "حماس" وإسرائيل، ملخّصها هدوء سببه توافق في المصالح وتناقض المنطلقات طيلة 15 عامًا، تخلّله فترات من عدم الاستقرار، كلما اختلفت المصالح أو تناقضت، وبالتالي توقع تورتشين أن تؤدي المعلومات والبيانات المتراكمة إلى وعي بان الصدام سيحدث إن آجلًا أم عاجلًا، حين تتناقض المصالح النهائيّة.
ختامًا: وعودة إلى حال المواطنين العرب وممثّليهم السياسيّين والاجتماعيّين، وقنوطهم من جهة، وامتناعهم من جهة أخرى عن إبداء المواقف الشجاعة والواضحة والصريحة، دون أيّ اعتبارات غير مفهومة، ودون خوف أو وجل من أيّ سلطة أو منظّمة، محليّة كانت أم قطريّة، أم ذات انتماء قوميّ ودينيّ، أخشى أن يتحقّق، أو ربما تحقّق، فينا ما قاله جورج أورويل ، في روايته" 1984" من السلطة لا تكتفي بإنتاج المعرفة وصياغة مدى ومفهوم معرفة المواطن لحقوقه، سواء كان ذلك عبر تشريعات حقيقيّة، أو توجيهات وتلميحات غير مباشرة ، بل إنها تحتكر المعرفة، أي أي أنها تعمل على تقييد الحريّات واحتكار الصلاحيّة، لتحديدها عبر تقزيم الهيئات القضائيّة، خاصّة وأن أورويل يتحدّث في روايته المذكورة عن عمل السلطة على ضبط المجتمع ومراقبة سلوكه، والتحكّم بهم عبر ممارسة رقابتها على الأفراد، وليس فقط بالعنف والقمع المباشر ضد أيّ خروج عليها وعلى قيمها. وباختصار، حالة يمتنع فيها أصحاب الرأي والموقف عن التصريح بمواقفهم ومبادئهم، كي لا يثيروا غضب السلطان أو مؤيّديه من المصفّقين والأعوان، عملًا بالتحذير الخطير الذي جاء في قول فيودور دوستويفسكي الشهير:" سيصل العالم إلى زمن يُمْنَع الأذكياء من التَفكير حتى لا يُسيئوا إلى الحمقى".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il