الغاية السعوديّة في النوويّ والحماية الأمريكيّة تبرّر التطبيع مع إسرائيل
وكأنّ القدر، أو التاريخ كتب لها أن تفعل ذلك مرّة كلّ عقدين من الزمن، تعود المملكة العربيّة السعوديّة مرّة أخرى، وفي الأسابيع الأخيرة، إلى واجهة العناوين الإخباريّة، بما يتعلّق بسلام مع إسرائيل
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
ينهي الصراع، أو النزاع العربيّ الإسرائيليّ بشكل تامّ ونهائيّ، وليس النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وكأنّها تريد أن تقول، مرّة أخرى ربما لن تكون الأخيرة، إنها دولة كبرى إقليميًّا على الأقلّ، وأن لمواقفها وتأثيرها قابليّة ووزنًا في كلّ زمان ومكان، وأنها البديل والخيار حين تنعدم الخيارات البديلة المحتملة، فالحديث السائد اليوم يتحدّث علنًا عن اتفاقيّة صلح أو مصالحة، سيتمّ توقيعها قريبًا بين إسرائيل والسعوديّة، تندرج ضمن خطّة، أو صفقة ثلاثيّة تكون الولايات المتحدة طرفها الثالث، بل الرئيسيّ، عبر اتفاق تطبيع العلاقات بين السعوديّة وإسرائيل برعاية أمريكيّة، يوفّر للأطراف الثلاثة منافع ومصالح مشتركة، إذ يعزّز الدور المحوري للسعوديّة في المنطقة بوسائل سنعرّج عليها لاحقًا، ويزيد من قبول إسرائيل في العالم العربيّ، ويدعم الوجود الأمريكيّ في المنطقة على حساب الدور الصينيّ المتنامي، خاصّة بعد الدور الحاسم الذي لعبته الصين في استئناف العلاقات السياسيّة والدبلوماسيّة بين السعوديّة وإيران واستئناف العلاقات الدبلوماسيّة. وهذا هو كما يبدو، بل من شبه المؤكّد الدافع الرئيسيّ والأساسيّ للمبادرة الأمريكيّة للتطبيع وللجهود المتواصلة، وحتى الضغوط الناعمة الأمريكيّة على السعوديّة من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. ويشمل ذلك الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو لوقف الانقلاب الدستوريّ مقابل تطبيع مع السعوديّة، وهو إنجاز يمكن لنتنياهو استخدامه لصرف النظر عن تدهور شعبيّته جرّاء الانقلاب القضائيّ، علمًا أن ما يميّز الحالة الحاليّة هو العلنيّة المفرطة أحيانًا، فها هو رئيس وزراء إسرائيل ، بنيامين نتنياهو، يعلن في خطابه أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، أن إسرائيل على عتبة التطبيع مع السعوديّة، وأنه يجب عدم منح الفلسطينيين إمكانيّة، أو حقّ النقض عليها، وبكلمات أخرى فهو يشير إلى أن القضيّة الفلسطينيّة هي عقبة يجب إزالتها ، بل يلمّح إلى أنه تم فعلًا إزالتها من جدول الأعمال، بينما يؤكّد ولي العهد السعوديّ، محمد بن سلمان من طرفه أن بلاده باتت أقرب من أيّ وقت مضى إلى التطبيع مع إسرائيل، ترافق ذلك تأكيدات أمريكيّة وخطوات أخرى منها زيارة وزير السياحة الإسرائيليّ حاييم كاتس للسعوديّة، للمشاركة في مؤتمر لمنظّمة السياحة العالميّة التابعة للأمم المتحدة في أول زيارة علنيّة لمسؤول إسرائيليّ رفيع المستوى للسعوديّة منذ عقود، وبعده وزير الاتصالات شلومو كارعي المعروف بمواقفه المتطرّفة للمشاركة في المؤتمر الدوليّ لمنظمة البريد العالميّ، والذي نشرت له وسائل الإعلام أشرطة مصوّرة وهو يؤدّي رقصات وشعائر دينيّة تتعلق بعيد العرش اليهوديّ في مكان إقامته في الرياض، وزيارات علنيّة لصحافيّين إسرائيليّين، ما يعني عمليًّا أن اتفاقيّة إسرائيليّة - سعوديّة أصبحت مسألة وقت، وأننا على حافّة مرحلة جديدة تمهد لدمج اسرائيل في المنطقة، وربما إلغاء الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة، رغم ما قامت به السعوديّة، بإيفاد نايف السديري ليكون سفيرًا في فلسطين، أو لدى السلطة الفلسطينيّة، ورغم أنه وصل مدينة رام الله والتقى قيادات فلسطينيّة أكد أمامها ، كما جاء في بيان رسميّ سعوديّ" عمق العلاقات التي تجمع بين فلسطين والسعوديّة التي لا تزال تعمل من أجل تحقيق السلام العادل والكامل للشعب الفلسطينيّ". وهو بيان ضبابيّ، يعيد إلى الأذهان نصّ البيانات الرسميّة التي تصدر عن كافّة الدول العربيّة، بما فيها تلك الدول التي وقّعت اتفاقيّات سلام، أو مصالحة أو صلح مع إسرائيل، تجاهل بعضها نهائيًّا الشأن الفلسطينيّ.
ما سبق، وخاصّة قولي أنه وكأنّ القدر كتب للسعوديّة أن تتصدّر العناوين مرّة كلّ عقدين، بما يتعلّق بسلام مع إسرائيل، يؤكّده التاريخ بتسلسله الزمنيّ، الذي أؤكّد مرّة أخرى، كما في قضايا وحالات مشابهة أخرى تتعلّق بالصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، أو العربيّ الإسرائيليّ-مع أن اختلاف التسميات يعني اختلاف الأفضليّات وتباين الاهتمامات الرئيسيّة- أؤكّد أهميّة الاهتمام بالمضمون والفحوى والصياغات والعبارات، والالتفات إلى التغييرات التي تطرأ عليها، فالحديث عن سلام سعوديّ، أو مع السعوديّة، أو عن مبادرة سلام سعوديّة ليس جديدًا، فهو وبنظرة سريعة تاريخيّة، بدا عام 1981 وتحديدًا في السابع من آب في ذلك العام خلال مؤتمر القمة العربيّة المنعقد في مدينة "فاس" في المملكة المغربيّة، عبر مبادرة سلام سعوديّة هي الأولى، طرحها الأمير فهد بن عبد العزيز، تحدثت بنودها عن سلام شروطه، انسحاب إسرائيليّ تامّ من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وتفكيك كافّة المستوطنات التي أقيمت وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة عاصمتها القدس الشرقيّة، وتأكيد حقّ الشعب الفلسطيني في العودة، وتعويض من لا يرغب في العودة وإخضاع الضفّة الغربيّة وقطاع غزة لفترة انتقاليّة تحت إشراف الأمم المتحدة، ولمدّة لا تزيد عن بضعة أشهر، وهي مبادرة سارعت إسرائيل عبر رئيس حكومتها مناحيم بيغن الى رفضها معتبرًا إياها محاولة لإبادة دولة إسرائيل (علمًا أن مصر رفضتها باعتبارها التفافًا على اتفاقيات كامب ديفيد وإلغائها خاصّة ما يتعلّق منها بالشأن الفلسطينيّ، ومبدأ الحكم الذاتيّ وليس الدولة المستقلّة)، وهي المبادرة التي تم طرحها بعد عقدين من الزمن مرّة أخرى وخلال مؤتمر القمة العربيّة في بيروت العاصمة اللبنانيّة، في الثامن والعشرين من آذار عام 2002، وتمّت تسميتها مبادرة السلام العربيّة، وبحثها من قبل وزراء الخارجيّة العرب في مؤتمرهم في القاهرة قبل قمّة بيروت، ربما بعد أن اتّضح للجميع أن اتفاقيات كامب ديفيد من جهة، واتفاقيّات أوسلو من جهة أخرى لم تحقّق السلام ولم تمنح الفلسطينيّين كيانًا مستقلًا، ونصّت على الانسحاب حتى حدود الرابع من حزيران، وإيجاد حلّ عادل لقضيّة اللاجئين (ليس فرض العودة ) وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة، وإنهاء الصراع مع إسرائيل وإقامة علاقات طبيعيّة معها، وهو ما لم يرد ذكره في مبادرة عام 1981، علمًا أن المبادرة الحالية، وربما بفعل استخلاص السعوديّة والدول العربيّة العبر، وفهم التغييرات في الساحة السياسيّة الدوليّة، طلبت من الأمم المتحدة وأمينها العام ومجلس الأمن الدوليّ، تـشكيل لجـنة خـاصّة مـن عـددـ مـن الدول الأعضاء المعنيّة والـعمل على تـأكيد دعمها عـلى كافـّة المـستويات، وفي مقدمـتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والولايات المتحدة والاتحاد الروسيّ والدول الإسلاميّة والاتحاد الأوروبيّ، بخلاف مبادرة عام 1981 التي اعتمدت الأمم المتحدة عنوانًا للتوجّه، إضافة إلى مرحلة ثالثة، تمّ الحديث فيها عن السلام مع إسرائيل، هي قمّة جدة للأمن والتنمية التي عُقدت في 16 تموز من العام 2022، بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن، ومشاركة دول مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق، والتي جاء في بيانها الختاميّ، أنه يجب حلّ القضيّة الفلسطينيّة وفقًا لمبادرة السلام العربيّة والقرارات الدوليّة، ناهيك عن البيان الصادر عن اللقاء بين وزراء خارجيّة دول مجلس التعاون والوزير الأمريكي أنتوني بلينكن في حزيران 2022 في الرياض، أكّد اتفاق الجانبين على أن يكون حلّ القضيّة الفلسطينيّة متوافقًا مع مبادرة السلام العربيّة، وصولًا إلى ما نحن بصدده اليوم ،وهو الحديث عن أنّ السعوديّة ستطبّع علاقتها مع إسرائيل، بشرط واحد هو إلزام الولايات المتحدة باتفاقيّة دفاع عنها، إضافة إلى موافقة إسرائيليّة على أن تقوم الرياض بتخصيب اليورانيوم على أراضيها، وفي حال تحقّق هذا الشرط، فسيتم تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، دون النظر كما يبدو إلى الجوانب الأخرى والمطالب المتعلّقة بحقوق الفلسطينيّين، أي أن حصول السعوديّة على اتفاق دفاعيّ ملزم مع الولايات المتحدة، سيدفعها نحو التطبيع، حتى لو لم تقدّم إسرائيل تنازلات للفلسطينيّين، ودون إقامة دولة مستقلّة لهم، بخلاف ما قاله ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان في لقاء مع قناة فوكس الأمريكية، من أن القضية الفلسطينيّة تشكّل جزءًا هامًّا في مسألة التطبيع مع إسرائيل، ويجب أن يتحسّن وضع الفلسطينيّين كشرط للتطبيع مع إسرائيل ، التي سبق له أن قال عنها في مقابلة مع مجلة " أتلانتيك" الأمريكية في آذار عام 2022، إنها في نظر السعودية لا تعتبر عدوًّا، بل "حليفًا محتملًا"، تجمعه مع بلاده مصالح مشتركة ( خاصّة بأن الإعلام الإسرائيليّ كان قد أكّد لقاء الأمير محمد بن سلمان مع رئيس الحكومة الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو على الأرض السعوديّة ).
"الرد الفلسطيني"
في هذا السياق، وقبل الخوض في تفاصيل اتّفاق التطبيع وسبب الهرولة الإسرائيليّة إليه والتي تفوق الهرولة، أو التحمّس السعوديّ إزاء التطبيع، لا بدّ من التطرّق إلى الرد الفلسطينيّ على المبادرة السعوديّة للتطبيع مع إسرائيل، أو الاستعداد السعودي للتطبيع حاليًا، فبخلاف المرات السابقة التي سارع الفلسطينيون على مستوى الشارع والقيادة على اختلاف الفصائل، إلى استخدام أسلوب القذف والشتم والتخوين ، وكلّنا ما زلنا نذكر الردّ على اتفاقيّات أبراهام من تدنيس للعلم الإماراتيّ وغيره، انتهج الفلسطينيّون طريقًا مغايرة، ملخّصها لقاءات مع الجانب السعوديّ، لفحص ثمار يقطفها الفلسطينيّون من سلام سيتمّ ولا دور لهم فيه، ولا يمكنهم منعه، بمعنى أن هذا السلام يضعهم مرة أخرى في الزاوية، وعليهم محاولة الاستفادة منه قدر الإمكان، وهذا ربما أحد الدروس التي تعلّمتها القيادة الفلسطينيّة ممّا رافق "صفقة القرن" التي وافقت الرياض عليها ودعمتها، وليس فقط ذلك، بل إنها غضبت من الرفض الفلسطينيّ لها، حتى نُقل عن محمد بن سلمان قوله إن الفلسطينيين يواصلون تفويت الفرصة تلو الفرصة ، رغم أنها بمجملها كانت صفقة سيّئة في نظر الفلسطينيّين، لو طبّقت كما كان مقررًا لها، تنصّ على إقامة دولة فلسطينيّة على 70% من الأراضي المحتلة عام 1967، تكون مشروطة بحسن نوايا إسرائيل وإصرار الولايات المتحدة على إلزام إسرائيل على تنفيذ الاتفاق، وهو أمر في عداد المستحيل، ومن هنا لا بدّ من التدقيق في التصريحات السعودية حول ما سيحصل عليه الفلسطينيّون جرّاء اتفاق تطبيع محتمل، سيأتي لو بعد حين، والفارق بين تصريح وزير الخارجية السعوديّ، الأمير فيصل بن فرحان، الذي أكّد أنه لن يكون هناك حلّ للصراع الفلسطيني الإسرائيليّ دون دولة فلسطينيّة مستقلّة، مقابل تصريح محمد بن سلمان الذي جاء فيه :"يجب أن نرى إلى أين سنصل، نأمل أننا سنصل إلى مكان سيسهل حياة الفلسطينيين ويجعل إسرائيل لاعبًا في الشرق الأوسط"، دون أن يتحدّث عن إقامة دولة مستقلّة، أو غيره بل يبقي الفلسطينيين بين الاحتلال والضمّ ومواصلة إسرائيل الاستيطان، وهو ما عبّرت عنه مخاوف بعض المسؤولين والمواطنين الفلسطينيين الذين قالوا إنهم يخشون أن يكون التطبيع السعوديّ الإسرائيليّ نسخة أخرى من اتفاقيات أبراهام وأوسلو، التي وإن كانت حسَّنت من الأوضاع الاقتصاديّة للفلسطينيّين ، إلا أنها لم تدفعهم قدمًا نحو الاستقلال وإنهاء الاحتلال، وهو أمر من المستحيل أن يحدث في ظلّ الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة التي تشارك فيها أحزاب يمينيّة متطرّفة ترفض أيّ حديث عن انسحاب من الضفّة الغربيّة، بل بالعكس تطالب بضمّها كلها، ما يعني وبوجود ما يمكن وصفه بالإجماع الإسرائيليّ ، سواء من الحكومة الحاليّة، أو تلك التي سبقتها، ويقينًا تلك التي ستليها ، على رفض إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة وانعدام الثقة بالشريك الفلسطينيّ، إن أقصى ما سيحصل عليه الفلسطينيّون سيكون مساعدات ماليّة تقدر بمليارات الدولارات وربما تعهد إسرائيليّ بعدم ضمّ الضفّة الغربيّة لأعوام قادمة، دون أيّ تعهّد بإقامة كيان فلسطيني أيًّا كان، أي أن يدفع الفلسطينيّون ثمنًا كبيرًا جدًّا هو إنهاء حلّ الدولتين بشكل كامل.
إضافة إلى ما سبق، وخلافًا للمشاهد الاستعراضيّة، بل الاحتفاليّة التي رافقت "صفقة القرن" وورشة المنامة، وبعدها السريّة التامّة التي رافقت المجريات التي قادت، وأفضت إلى توقيع "الاتفاقيّات الإبراهيميّة" بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، وما حصلت عليه الإمارات مقابله من تعهد بعدم ضمّ الضفة الغربيّة وغور الأردن، إضافة إلى عشرات الطائرات من طراز "إف 35"، وبعد ذلك الاحتفال الذي تم في واشنطن على عجل ودون ترتيب، فإن التطبيع بين السعوديّة وإسرائيل يختلف من حيث أن التطوّرات التي ترافقه واللقاءات المرتبطة به، والتوافقات والخلافات، تتمّ علنًا وعلى رؤوس الأشهاد، ودون استعجال، لإدراك الأطراف كلّها أنها قضية يجب طبخها على نار هادئة، تضمن النجاح والقبول وتخفّف من الاعتراضات، وتمنع ردود الفعل الغاضبة والمنتقدة، ويبدو أن كافّة الأطراف ذات العلاقة تدرك خصوصيّة هذا التطبيع مع دولة محوريّة في الشرق الأوسط ،تتمتّع بأهميّة كبيرة في الاقتصاد العالميّ لمكانتها الهامّة في مجال الطاقة، وبالتالي يتطلّب الأمر الصبر والتريّث والنفس الطويل.
وبطبيعة الحال، فإن أيّ حديث عن الشأن الفلسطينيّ والمكانة النهائيّة للضفّة الغربيّة والأراضي المحتلّة والقدس، يعني بالضرورة الحديث عن المملكة الأردنيّة الهاشميّة بصفتها صاحبة الولاية على الأماكن المقدسة الإسلاميّة، وتحديدًا الحرم القدسيّ الشريف والمسجدين الأقصى وقبّة الصخرة، فإنه من الضروري واللازم إيلاء الاهتمام للموقف الأردنيّ من الأمر وعدم وضع المملكة في الزاوية بمعنى عدم فرض الوقائع عليها، وهذا ما أكّده العاهل الأردنيّ الملك عبد الله الثاني خلال زيارته لمدينة نيويورك في أيلول الأخير، بقوله أن اتفاقًا كهذا قد يقود المنطقة إلى أفق جديد، وتأكيده على أن للسعودية ولإسرائيل وللولايات المتحدة، اعتبارات وأسبابًا للسير قدمًا في مسار السلام والوصول إلى اتفاق، ولكن -وهنا بيت القصيد لمن يفقه التصريحات الدبلوماسيّة واللغة السياسيّة وتفاصيل العلاقات الدوليّة- " يتوجّب الأخذ بعين الاعتبار ما سيجنيه الفلسطينيّون وما ستجنيه المنطقة من هذا الأمر"، وقوله أنّ جزءا من المشكلة يكمن في الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة واعتقادها أنه يمكنها تجاوز الفلسطينييّن والتعامل مع العرب، وقوله في النهاية حول عدم إمكانيّة هذا الأمر، وأنه لن يتم الوصول إلى سلام حقيقيّ دون حلّ للقضيّة الفلسطينيّة. وهي تصريحات هامّة يؤكّد فيها الملك عبد الله الثاني تأييده للخطوات التي تقود إلى إحلال السلام بالمنطقة، مع التأكيد ، بلهجة تقترب من التحذير، من مغبّة وخطورة تجاوز الفلسطينيّين ودور المملكة الأردنّية الهاشميّة في فلسطين، ما يفسّره البعض على أن السعودية قد تحاول استغلال التطبيع مع إسرائيل لتعزيز مكانتها في القدس، وربما محاولة الاستفراد بالوصاية على الأماكن المقدسة في القدس، أو على الأقلّ المشاركة فيها.
خلاصة القول هنا أن المفاوضات والاتصالات العلنيّة حول التطبيع السعوديّ الإسرائيليّ تؤكّد عدّة أمور، تتعلّق بحسابات الربح والخسارة لكلّ طرف من الأطراف المباشرة، فالإدارة الأمريكيّة الحاليّة، وخاصّة على ضوء انخفاض شعبيّة الرئيس جو بايدن كما تشير الاستطلاعات، تريد تحقيق إنجاز كبير قبيل الانتخابات الرئاسيّة القادمة والتي ستجرى عام 2024، وليس هناك ربّما أفضل من سلام إسرائيليّ سعوديّ، يرضي مؤيّدي إسرائيل من جهة وأرباب الصناعة الأمريكيّة عبر ضمان استقرار نفطيّ لعقود طويلة، وتقليص لدور الصين الاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ في الخليج خاصّة والشرق الأوسط عامّة، إضافة إلى أنه من الواضح أن واشنطن ، وبعد اتفاقيات أبراهام وما تعانيه الدول العربية ومنها مصر والمغرب وتونس ، لا تخشى أو لم تعد تخشى، ردودًا عربية غاضبة لها وزنها يمكنها أن تفسد عمليّة السلام ، فمصلحتها الاستراتيجيّة في تقويض نفوذ الصين مصلحة لا يمكن تأجيلها، ومن هنا جاء تركيز الحديث عن الجوانب الاقتصاديّة للتطبيع والحديث عن الفوائد الاقتصاديّة للتطبيع وتقريب إسرائيل إلى دول المنطقة، عبر المشروع الاقتصاديّ الكبير، وهو بناء سكّة حديدية تربط الهند بأوروبا مرورًا بالأردن والسعوديّة والإمارات، تعني عمليًّا إضعاف النفوذ الصينيّ، أمّا السعوديّة فتريد التطبيع لتكريس دورها كدولة عظمى إقليميًّا ، وهو دور يريد ولي العهد والحاكم الفعليّ الشاب للسعوديّة محمد بن سلمان، نقله إلى مصافّ الدور العالميّ، ولهذا الغرض فإنه وبلاده بحاجة ماسّة إلى إنهاء كافّة الملفّات العالقة ، أو ما يسمّى باللغة السياسيّة "تصفير المشاكل والأزمات" ، وهو ما بدأته السعوديّة بالسعي لوقف الحرب في اليمن، وقبلها المصالحة مع قطر، وبعدها لإذابة الجليد الذي لفّ العلاقات مع إيران والذي وصل حدّ التهديد باستخدام السلاح والصدام العسكريّ، ليتحوّل إلى استئناف للعلاقات العسكريّة والدبلوماسيّة ، والآن جاء دور إسرائيل وتصفير الخلاف معها، مع اختلاف بسيط، وهو الأخذ بعين الاعتبار لخصائص الوضع الفلسطينيّ، فالتطبيع دون إلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها وإقامة الدولة الفلسطينيّة لن يُصفّر الأزمات في المنطقة، ولن يضمن الأمن والاستقرار والسلام، ناهيك عن أن أيّ اتفاق تطبيع مع إسرائيل ، سيقابل بالرفض إسرائيليًّا من اليسار بسبب رفضه لرغبة السعوديّة في تخصيب اليورانيوم، وخوفًا من السعوديّة النوويّة، وسيعارضه اليمين لرفضه الانسحاب من أيّ جزء في الضفّة الغربيّة، أمّا فلسطينيًّا فمن الواضح أن هذا التطبيع سيعني عمليًّا إسدال الستار على أيّ حلّ للقضيّة الفلسطينيّة يضمن كيانًا فلسطينيًّا أيًّا كان، وأن تحقيق التطبيع السعوديّ الإسرائيليّ قبل قيام الدولة الفلسطينيّة، يعني أنه لن تكون هناك دولة فلسطينيّة مستقلّة، حتى على المدى البعيد.
"ضرب عصفورين بحجر"
ختامًا: يمكن الجزم وقبل أن تنضج طبخة التطبيع أن الولايات المتحدة، وتحديدًا الرئيس بايدن هم أول وأكبر الرابحين، ولذلك يهتمّون بالسعي إليها وإنجاحها، فالتطبيع يعني ضرب عصفورين بحجر أولهما أمريكي، وهو النفط وضرب العلاقات السعوديّة مع الصين وروسيا، والثاني يصبّ في مصلحة إسرائيل، ويعني تحسين صورتها في العالم العربيّ والعالم، وهي التي تضرّرت بسبب الائتلاف الحكوميّ الحالي والخلافات الداخليّة والاحتجاجات الشعبيّة، وتصريحات وزرائه من اليمين المتطرّف حول حرق حوارة وفوقيّة اليهود، وكون حياتهم وأمنهم أهمّ من حياة العرب والفلسطينيّين، وكذلك الانقلاب الدستوريّ وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة في إسرائيل، ليكون الردّ عبر التطبيع ومشاريع اقتصاديّة يصبّ ربحها في خزينة إسرائيل بالأساس، وكذلك ربط تحسين العلاقات السعوديّة الأمريكية بتطبيع العلاقات السعوديّة الإسرائيليّة، واشتراط موافقة أمريكا على المشروع النوويّ السعوديّ بالموافقة الإسرائيليّة عليه ،ودخل أمريكي من الخزينة السعوديّة بقيمة أكثر من 400 مليار دولار مقابل الآلة العسكريّة التي ستمدّ بها أمريكا السعودية، أمّا السعوديّة فستحصل على ما أرادت من مكانة إقليميّة هي موجودة اليوم أصلًا، ومكانة دولّية منتظرة، يجب أن نرفع رايات الاستغراب، بل الشكّ في إمكانيّة تحقيقها عبر "وضع كافّة البيضات في سلّة واحدة" بمعنى العودة إلى سنوات غابرة كانت السعودية في "سلة أمريكا حصريًّا" في كافّة النواحي السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة خلافًا لما شهدته في السنوات الأخيرة من تنويع للعلاقات وخلق صلات في نفس الوقت مع الصين الوسيطة للمصالحة مع إيران، وروسيا (أوبك بلاس) وصلت حدّ رفض الاستجابة لطلبات بايدن زيادة صادرات النفط إلى بلاده ما اضطرّه إلى الاستعانة باحتياط النفط الأمريكي، ويطرح السؤال الضروريّ:" من سيدفع الثمن" وهل، بل يقينًا، سيكون الطرف الفلسطينيّ الذي قبل قادته، كما يبدو، بالأمر الواقع وقرّروا القبول بدورهم كشريك صامت في مسيرة التطبيع والقبول بها، ما يعني أنهم يكرّرون نفس الخطأ وهو الثقة التامّة بالوعود والبيانات والتصريحات الصادرة عن الدول العربيّة، والتي بان زيفها منذ 1948 وحتى اليوم،، وهذه المرّة الثقة الكاملة بالموقف السعوديّ والتيقّن من أن السعوديّة لن تقبل التطبيع دون حلّ يضمن كيانًا فلسطينيًّا، في حالة أخرى يرفضون فيها، قراءة العنوان المكتوب على الحائط بأحرف من نور أو ..نار، متجاهلين قول أفلاطون الشهير:" أصغ لما يقوله أعداؤك، ففي كلامهم الكثير من الحقيقة التي أخفاها أحبابك".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا