عندما تنهار المجتمعات يكثُر فيها ‘المنافقون والمتسيّسون والانتهازيّون‘
كاختلاف المواقف والمعتقدات والتوجّهات، وربما تفاوت وتناقُض المصالح وتشابك العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة، وازدواجيّة المعايير العالمية انطلاقًا من عوامل القوّة
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وصحيفة بانوراما
المطلقة للدولة من جهة، أو قوّة زعمائها. وهي في الدول التي تسمّي نفسها بالليبراليّة والديمقراطيّة، آنيّة ومؤقّتة ومتغيرّة بتغير القائد والزعيم والحزب الحاكم والتحالفات الحزبيّة، ودائمة أو تعمِّر لسنوات طويلة في الدول الدكتاتوريّة التي تعتمد الكبت السياسيّ والعسكريّ والمخابراتيّ، تختلف تسميات الأحداث التي يشهدها العالم من حولنا، خاصّة تلك المتعلّقة بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتي يبدو، بل من شبه المؤكّد أنها تحوّلت إلى حرب استنزاف بين أمريكا والدول الأوروبيّة وأوكرانيا من جهة وروسيا من جهة أخرى، وهو تحوّل حصل ليس من تلقاء ذاته، وليس بفعل تطوّرات على أرض المعركة، بل بقرارات اتّخذها سياسيّون يرفضون رؤية الواقع، وما يحدث في مصر مثلًا، وهي أول وأكبر الدول العربيّة التي داهمها "الربيع العربيّ"، والذي لم يبق ولم يذر، بل ترك أرضًا محروقة، وهي التي تعيش الوضع الأسوأ اقتصاديًّا ومعيشيًّا والأكثر دينًا للدول الخارجيّة والأقلّ دخلًا لمواطنيها، والأقلّ حريّة بالمطلق، بل تلك التي يعيش مواطنوها فقط بفعل قروض بمئات مليارات الدولارات من دول خارجيّة عربيّة وأوروبيّة اضطرتها إلى بيع شركات وممتلكات وثروات طبيعيّة، وما يحدث في إسرائيل من انقلاب قضائيّ تحاول الحكومة الحاليّة فيه، عبر تشريعات، بغطاء ديمقراطيّ وبرلمانيّ، تغيير قواعد اللعبة السياسيّة والنظام الذي تسير السلطة وفقه، لكنها كلها وقائع وأحداث وتطوّرات أمكن منعها، أو منع نتائجها السيّئة والسلبيّة، بل الفتّاكة والخطيرة، أو تقليصها على الأقلّ، لو كرَّس أصحاب القرار لها، قبلها وخلالها، التفكير الكافي وحاولوا النظر في كافّة جوانبها وأبعادها وتأثيراتها على المدى البعيد والقريب، وبالحري لو توفّرت لدى أصحاب السلطة والقرار الثقافة السياسيّة الصحيحة، أو ما يمكن تسميته" التربية السياسيّة الصحيحة"، وهي جزء من التربية العامّة بمفهومها الواسع والمتشعّب والهام الذي يمسّ كافّة مناحي الحياة لكافّة الناس، بل يشكّل العصب الرئيسيّ للحياة السياسيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة للأفراد والجماعات، بل للدول والشعوب. وهو موضوع مقالنا هذا، بمعنى أن التفكير السليم المبني على أسس صحيحة وصحيّة والتفحّص في الأمور المبنيّ على رغبة داخليّة تحفّز العقل على التفكير، وتوقد فيه الفضول للخوض في التفاصيل، وإدراك أسباب ومبرّرات وتأثيرات ونتائج كلّ عمل يقوم به، أو توقظ فيه الشجاعة لمراجعة الذات وإعادة الحسابات، واتخاذ القرارات الصحيحة حتى لو جاء ذلك بعد سنوات من الخمود والهدوء واتّباع سياسة واحدة تعتمد القوّة العسكريّة وتوجّهات الفوقيّة القوميّة، أو العرقيّة، أو السياسيّة، ونهج واحد من التعامل مع الأقليّات أو الدول الجارة، ودون الخوض في السؤال حول مدى جدواها خاصّة حين يتعلّق الأمر بالحالة الاقتصاديّة وسيطرة هيئات معيّنة عليها فقط من منطلق القوّة والمقدرة كما هو الحال في مصر مثلًا، أو بعد سنوات من اتّباع توجّهات أصوليّة دينيّة وغيرها، أو عقود من التقوقع كما هو حال المؤسسات الأكاديميّة مثلًا في إسرائيل، والتي امتنعت معظمها عن الخوض المباشر في الجدل السياسيّ والاقتصاديّ الدائر فيها، وخاصّة منذ العام 1967، أي بعد حرب الأيام الستة واحتلال الضفة الغربيّة، وما تلا ذلك من تغيير في منحى السياسة الإسرائيليّة نحو تكريس مبدأ "القوّة العسكريّة والجيش الذي لا يقهر"، وما يرافقه من تنازل عن تذويت قيم الديمقراطيّة والعيش المشترك ونزعات مناقشة الأمور بحريّة وشفافيّة وتكريس منطق الرأي والرأي المعاكس، وتشجيع التعبير عن الرأي والموقف سواء كان ذلك بين طواقم الأكاديميّين في الجامعات الذين امتنع كثيرون منهم عن الخوض في السياسات العامّة واكتفوا بالتعليم والتدريس، بل أنكى من ذلك ، حيث تملكتهم نزعة تهميش العلوم الإنسانيّة والآداب، وهي الدراسات التي تشجّع الحوار والنقاش وإبداء المواقف والتوجّهات المختلفة، ويمكن اختصارها في أنها تعتمد تكرار السؤال حول "كيف"، وتبجيل الدراسات الدقيقة والعلوم الدقيقة التي تنحصر في النتائج الواضحة والصريحة، أي حول "ماذا"، وهو ما يحصل في مجالات عديدة في الحياة في إسرائيل، منها الصناعة وعالم الأعمال، وخاصّة الصناعات التقنيّة المتقدّمة والشركات الكبرى المسيطرة على الحركة الاقتصاديّة والتي اعتادت كلّها طيلة سنوات عدم التدخّل في السياسة وعدم إبداء الرأي في القضايا السياسيّة والأيديولوجيّة الحارقة، باعتبار الاقتصاد وأرباحه ، أمرًا لا يتعلّق بالسياسة الداخليّة، أو الخارجيّة حتى اتّضح عكس ذلك مؤخّرًا، وبالتالي اضطر أرباب الصناعة، الى إعادة التفكير في موقفهم، وتغيير توجههم المعتاد ، وذلك لأسباب اقتصاديّة بحتة تجيء رغم اختلاف المواقف السياسيّة لتصب في بوتقة واحدة تطالب في حالتنا هنا بوقف الانقلاب القضائيّ باعتباره ضربة اقتصاديّة خطيرة ومسًّا بالعمل البحثيّ الأكاديميّ، وتكريسًا أو محاولة على الأقلّ لتكريس نظام حكم دكتاتوريّ خطير، وخلق حالة سياسيّة تعني ضمّ الضفة الغربيّة وإضعاف الجهاز القضائيّ، وجعل المستشارين القضائيين مأمورين خانعين.
ما سبق من حيث ضرورة عدم التقوقع خاصّة في المؤسّسات الأكاديميّة، وأقول هذا من منطلق كوني الرئيس العامّ للكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا، والتي تأسّست منذ عام 1949، كمؤسّسة لتأهيل الطواقم التربويّة التي تقود جهاز التربية والتعليم، وهي مؤسّسة لم تكتف منذ يومها الأول بدورها التعليميّ والأكاديميّ، بل تؤكّد أنها لا تكتفي بتأهيل الطواقم التربويّة، بل إن دورها أوسع من ذلك بكثير، وهو بناء الإنسان المنفتح والذي يملك النظرة الثاقبة والجرأة على قول الحقّ وإبداء الرأي وقول الكلمة الحرّة، ولعب دور مجتمعيّ واجتماعيّ وإنسانيّ يصبّ نحو خلق مجتمع يقبل المختلف، ويضمن له الحريّة ويعتبر الإنسان القيمة العليا، ويعتبر التعليم حقًّا أساسيًّا، ووسيلة لضمان الاستقلاليّة الاقتصاديّة والفكريّة والإنسانيّة، نحو خلق مجتمع أفضل، يذكرني بقول المفكر سقراط "لا يمكنني أن أُعلم أيّ أحدٍ أيّ شيء. كلّ ما يسعني فعله هو حثّهم على التفكير"، وكأنه يريد أن يقول إنه لا يمكنك أن تعلّم أحدًا أيّ شيء ما لم تكن رغبته نابعة من داخله، وهذا ما حصل مع المؤسّسات الأكاديميّة في إسرائيل، والتي ارتكبت خطيئتين أولهما أنها اعتقدت خطأً، خاصّة تلك التي ينتمي رؤساؤها إلى المركز أو اليسار، أنه يمكنها أن تبقى في برجها العاجيّ الأكاديميّ، دون أن تتّخذ موقفًا واضحًا في القضايا القيمية والمجتمعيّة، ودون أن تحرّك ساكنًا لمحاولة السلطات إغلاق قسم العلوم السياسيّة في جامعة بن غوريون في بئر السبع بادّعاء كونه صاحب ميول يساريّة لا تتلاءم مع السياسات الإسرائيليّة، وما تبعه من محاولات لكم أفواه هذه المؤسّسات وخاصّة محاضريها الذين يحملون مواقف يساريّة رافضة للاحتلال عبر منعهم من الحصول على جوائز التميّز، ومنح الأبحاث حتى لو كانوا من المحاضرين البارزين في مجالات العلوم الدقيقة والرياضيّات والطب وغيرها، وهي أمور كما قال سقراط" لم تعلم أيّ أحد أيّ شيء". والأنكى من ذلك أنها لم تدفع المسؤولين في هذه المؤسّسات إلى إعادة النظر في مواقفهم أو التفكير فيها، أو مجرد التفكير في المغزى والمضمون الأساس لرسالتهم الأكاديميّة والتي في نظري، وكما نؤمن في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا، يجب أن تعنى بالتربية بمضمونها الواسع الذي يشمل كافّة مناحي الحياة، نحو مشاركة مجتمعيّة ومواطنة مدنيّة تشمل إبداء المواقف المبدئيّة، بصراحة ووضوح، والتأكيد على أن التربية، والتي تبدأ منذ نعومة أظفار أبنائنا، هي السبيل نحو الوقوف أمام كافّة العقبات والظواهر السلبيّة ومنعها سلفًا، عبر تحفيز الجميع على التفكير والتمحيص، وإبداء الرأي وقبول الآخر والمختلف والحوار معه، دون إقصاء أو تخوين أو تجاهل، أو كبت وحرمان من حرية التعبير عن الرأي، وهو ما اتّضح من كون الكليّة من الأوائل الذين بادروا إلى إبداء موقف معارض للانقلاب القضائيّ، ليس من منطلق سياسيّ، أو انحياز إلى معسكر سياسيّ، أو حزبيّ دون آخر، بل انطلاقًا من قيم واضحة تعتبر الإنسان القيمة العليا، وتعتبر حياته وحريّته أسمى ما يمكن، وتعتبر أن دور السياسيين هو العمل لصيانة القيم السابقة بغض النظر عن هويّة ومبادئ وانتماءات الأفراد، وليس العكس فحياة الإنسان وحريّته بالنسبة لنا قيمة عليا ، تقابلها للأسف توجّهات معاكسة من مؤسّسات أكاديميّة في إسرائيل تدعو إلى تخفيف محكومية وتحسين ظروف سجن مستوطن إسرائيليّ، أدين بقتل أفراد عائلة دوابشة بإلقاء زجاجة حارقة داخل منزلهم وهم نيام.
"التنازل عن المواقف الشخصية"
ما سبق يجعلني أؤكد أن المؤسّسات الأكاديميّة في إسرائيل لم تتصرّف ضمن هذا السياق كمؤسّسات تعليم وبحث وفكر وتربية، فهي وإن اختلفت مواقف وتوجّهات رؤسائها، تصرّفت وفق المبدأ الإداريّ المتّبع في المؤسّسات الاقتصاديّة والربحيّة، والذي يقول إن مدراء هذه الشركات يتنازلون عن مواقفهم الشخصيّة، أو معتقداتهم الخاصّة حتى حول طريق الإدارة الصحيحة، إذا ما اعتقدوا أن الطريقة الأخرى التي يرفضونها من صميم القلب ستعود عليهم، أو عادت عليهم بالربح، أو الراحة أي أنهم يبحثون عن القاسم المشترك، وليس الموقف الواضح والمبدأ هنا يقول " أن المؤسّسات لن تدار بكفاءةٍ كبيرةٍ إذا كان لكلّ قائدٍ من القادة العشرة للإدارة العليا وجهة نظر مختلفة جذريًّا عن غيره. ولحسن الحظ أن الوضع لا يكون هكذا عادةً؛ فمعظم القادة في أيّ مؤسّسة يكون لديهم على الأقلّ أساس مشترك". وهذا ما كان؛ فالجامعات في إسرائيل أرادت الحفاظ على "كونها مؤسّسات أكاديميّة غير سياسيّة" وبالتالي تقوقعت وانكمشت، وليس ذلك فقط، بل إنه تملّكتها نزعة تهميش كافّة مساقات التعليم التي تشجع التفكير الخلّاق والمختلف ، وتذوّت قواعد اختلاف الرأي حول مسألة واحدة، أي العمل وفق القول" تعدّدت الطروحات واختلفت والموضوع واحد"، وسارعوا إلى "تبجيل" الخوض في مجالات العلوم والأبحاث، خاصّة مع الثورة التكنولوجيّة والتقنيّة، والتي رافقتها ثورة اقتصادية مالية دفعت بالجامعات إلى مزيد من الاستثمار في مجالات العلوم الدقيقة بدل علوم الاجتماع والآداب، فالعلوم تضمن من الدخل المالي أكثر ومن السمعة ما هو أفضل، متناسين بذلك أن المؤسّسات الأكاديميّة كانت وما زالت تشكّل حاضنة ومكانًا لنشوء الفكر الحرّ ونقطة انطلاق للتجديد والابتكار في مختلف ميادين الوجود الاجتماعيّ، عبر نمو الفكر الديمقراطيّ بكل ما ينطوي عليه هذا الفكر من مغازٍ وأهمّيّة وقيمة إنسانيّة، وأنه لا يمكن لها أن تؤدّي وظائفها كمؤسّسات أكاديميّة تربويّة تعليميّة، إلا إذا اتّبعت الأساس التكاملّي، فهي لا يمكنها أن تكون مؤسّسة علميّة ما لم تكن مؤسّسة ديمقراطيّة، ولا يمكنها أن تمارس دورها الحضاريّ، دون أن تؤدي وظيفتها العلميّة والديمقراطيّة.
تناست الجامعات في إسرائيل، حتى وقع الفأس بالرأس، وحتى اتّضح أن الانقلاب الدستوريّ سيقضي عليها علميًّا وماليًّا وبحثيًّا، ومن حيث سمعتها وإمكانيّة قبولها كجزء من الجالية الأكاديميّة الدوليّة والعالميّة، أن دورها هو التربية، وأن المجتمع الذي تعيش فيه لا ينمو إلا بالإبداع والابتكار، وأن قيم الحريّة والديمقراطيّة هي التي تضمن للأكاديميا تأدية دورها لدعم وتشجيع الإبداع والحرية في المجتمع، وبالتالي يجب ومن البديهي أن تسهم الجامعات ومؤسّسات التعليم العالي في بناء الديمقراطيّة، والمواطنة الصالحة القائمة على أساس إدراك الحقوق والواجبات من قبل الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد، فالمجتمعات وهذا ما نرفعه على راية الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا، بحاجة إلى خريجين من الكليّات والجامعات يكونون إضافة إلى إدراكهم التامّ لجوانب تخصّصهم الأكاديميّ والمهنيّ، مواطنين ناقدين وعقلانيّين يتمتّعون بأخلاقيّات الديمقراطيّة وثقافة حقوق الإنسان، بحيث يكون الناتج مواطنا ناقدا وبناء، ومجتمعا ثقافيا تعدديا ومتنوّع المواقف، أي أن دور الجامعات والمؤسّسات الأكاديميّة يشمل أيضًا في الدول الديمقراطية خاصّة والدول عامّة، تأهيل مواطن الغد الذي يكون على معرفة ودراية بالمصطلحات الأساسيّة للنظام الديمقراطيّ، مهتمًّا بما يجري حوله وصاحب موقف، يشعر بالانتماء إلى الدولة والمجتمع، انتقاديًّا، ويثق بقدرته على التأثير على الواقع مستخدمًا كافّة الأدوات المتاحة، لكن هذا يستوجب عملًا متكاملًا من التربية الحضاريّة يتمتّع بالشجاعة ويبعد عن التربية للمواطنة كما تسميها السلطات في إسرائيل، بمفهومها السياسيّ، وهو ما يجعلها لا تتوافق مع الأفكار التي بموجبها خُصّصت التربية المدنية لتأهيل مواطنين انتقادييّن.
" تغيير الركائز السياسيّة"
في هذا السياق، ومن هذا المنطلق، يبرز الخطأ الذي ارتكبته المؤسّسات الأكاديميّة في العالم خاصّة في عهد وسائل التواصل الاجتماعيّ من ابتعاد عن دعم التوجّهات التي تصبّ في صالح العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ، أي علوم التربية والمجتمع والآداب وغيرها، والتي اهتمّ باحثوها بالعلاقة بين الديمقراطيّة والتعليم بصورة عامّة والتعليم العالي بصورة خاصّة، وذلك من باب الإدراك التامّ لدور الجامعات والمؤسّسات الأكاديميّة في تكريس أو تغيير الركائز السياسيّة للنظام السياسيّ القائم، سواء كان ديمقراطيًّا تعدديًّا عبر تكريس التعدّديّة، وتأكيد إيجابيّات ومساهمات الديمقراطيّة وحريّة الفكر والإبداع في ضمان مقوّمات الحياة والرفاه الاقتصاديّ والأمن والأمان الشخصيّين، بل ضمان حياة الإنسان وكرامته، ومنع أيّ محاولة للمسّ بهما، أو دكتاتوريًّا عبر الابتعاد عن مناقشة القضايا السياسية والدعوة إلى الديمقراطيّة والحديث عن حقوق الفرد وحريّته، بدل الحديث عن " الوطن والكرامة الوطنيّة وتكريس فكر القبول بالتنازل عن الحقوق الفرديّة كضمان- زائف طبعًا- للكرامة القوميّة، أو كرامة الشعب وتكريس مبادئ أصوليّة تعتمد القوة والاضطهاد بحقّ الغير"، وما يرافق ذلك من قمع لحريّة المؤسّسات البحثيّة ومراكز الفكر العلميّ. وهذا هو فقط ما دفع الجامعات في إسرائيل إلى التحرّك ضد الانقلاب الدستوري دون ان يخجل قادتها من التأكيد أولا على ان استمرار الانقلاب القضائي سيؤدي الى وقف التعاونات بينهم وبين مؤسّسات وصناديق علميّة عالميّة وسيؤدي إلى وقف الأبحاث المشتركة مع نظرائهم من جامعات العالم، وبالتالي ستفقد الجامعات ملايين أو عشرات ملايين الدولارات من المنح المالية ، دون أيّ إشارة إلى حقوق الفرد والمواطن والأقليّات التي سيؤدي الانقلاب الدستوريّ للمسّ بها أو حرمان الناس منها، وهي نتيجة حتميّة لسنوات كانت الجامعات الإسرائيليّة فيها مؤسّسات أرادت بكلّ ثمن الحفاظ على علاقات طيّبة مع السلطة، دون إبداء أيّ موقف في القضايا المطروحة على الساحة. وهي حالة فهمها النظام على أنها قبول بكل خطواته وتنازل من الجامعات عن دورها المجتمعي والاجتماعي والتربوي واكتفاء بالدور التعليمي الضيق بل الضيق جدًّا الذي يهمش المجتمع، ويبجّل المجالات العلميّة فقط، باعتبار أن مادّة العلوم تعود بالفائدة من حيث تطوير الكفاءات، وتطوير مهارتي التحليل والتفكير ، وتؤدي بسرعة نسبيّة إلى تحقيق النجاح على الصعيد العمليّ، عبر التحفيز على الابتكار، كما تُلهم مادّة العلوم الأطفال والطلاب على اختلاف أعمارهم وقدراتهم للتطلّع إلى مستقبل مليء بالإبداع، يحتلّون فيه وظائف في مختلف مجالات العلوم، وبذلك يتمكّنون من دعم المجتمع والاقتصاد. وهذا هو الوضع تمامًا في الشأن المتعلّق بمواقف أرباب الصناعة والاقتصاد من الانقلاب الدستوريّ، فهم الذين كانوا طيلة سنوات أول المستفيدين من سياسات الحكومات المتعاقبة وخاصّة السوق الحرّة، أو الاقتصاد الحرّ، بل جنوا أرباحًا طائلة جعلتهم يبتعدون عن أيّ خطوة تغضب الحاكم والسلطان، وبالتالي هي المرّة الأولى التي يستخدمون فيها قوّتهم ضمن إطار مجتمعيّ شموليّ يتعلّق بحريّة وكرامة وحقوق الأفراد في نهاية المطاف، رغم أن المنطلقات رغم اختلاف المواقف السياسيّة والتوجّهات، كانت ربحيّة وشخصيّة قوامها خوفهم من المسّ بأرباحهم واستثماراتهم ومدّخراتهم وإمكانيات بيع شركاتهم إلى شركات اقتصاديّة عملاقة عالميّة سواء كانت أمريكية، أو أوروبيّة، أو صينيّة.
قول سقراط ينطبق أيضًا على الشأن الروسيّ الأوكرانيّ، فالمعطيات على أرض الواقع من حيث العلاقات الدوليّة كان من الواجب أن تدفع بروسيا إلى التيقّن من أن أوروبا والولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هجوم روسيّ على كييف، رغم أنها وربما لغاية في نفس يعقوب تحاول من خلالها إضعاف روسيا من جهة وإضعاف أوكرانيا من جهة أخرى للحيلولة، دون الوصول المحتمل إلى حالة تحاول فيها كييف اتّخاذ قرارات مستقلة تجاه روسيا قد لا تتوافق مع مواقف أوروبا وأمريكا المناوئة لموسكو سياسيًّا وعسكريًّا ، عملت على اتخاذ خطوات وإطلاق تصريحات صبت في خانة إيهام روسيا بأن أوروبا لن تتدخل، والنتيجة حرب كانت أوروبا في بدايتها وخلافًا لمطالبة أوكرانية بدعم عسكريّ مباشر، ترفض منحها الأسلحة، بل تكتفي بالدعم الماليّ والاقتصاديّ، وصولًا إلى حرب استنزاف تغيّرت معها بعد فوات الأوان مواقف أوروبا خاصّة عبر موافقة بعض الدول على تزويد أوكرانيا بطائرات اف 16 أمريكية الصنع، بينما تواصل أمريكا الاكتفاء بالدعم الماليّ، وهما خطوتان تصبّان في مصلحة استمرار الحرب دون حسم وصولًا إلى النتيجة التي أشرت إليها سابقًا من إضعاف للطرفين المتحاربين ما يصبّ في مصلحة أمريكا والغرب. ومن هنا فلو كانت روسيا كدولة لها مؤسّساتها التي تتمتّع بثقافة سياسيّة قوامها إبداء الرأي والتحذير من خطوات، أو مغامرات غير محسوبة وكتابة العنوان على الحائط بالبنط العريض يحذّر أصحاب الشركات فيها والخبراء والباحثون في الجامعات معاهد الأبحاث العلميّة والاستراتيجيّة والعسكريّة من تبعات الحرب الاقتصاديّة والعسكريّة والسياسيّة والعلميّة والبنيويّة والاستراتيجيّة والإنسانيّة، ولو كان حاكمها فلاديمير بوتين، يملك ثقافة وتربية مدنيّة بمعناها الواسع الذي يكرّس التعدّديّة، ويضمن الحريّة، ويقبل للغير ما يقبل لنفسه، ويفكّر بروية وليس بتسلّط وانفراديّة في خطواته، لأمكن منع الحرب عبر تغليب العقل والمنطق على العاطفة، ولو لتحقيق غاية ما فقط، وهو الحال في مصر التي تعيش حالة اختفت فيها ثقافة الحكم والسلطة، ولو أنها لم تكن ديمقراطيّة قبل العهد الحاليّ، وأصبح تكريس السلطة والحاكم الهمّ الأوّل للدولة ومؤسّساتها عبر إقصاء كلّ من يجرؤ على المعارضة، أو التحفّظ وعبر انقلاب قضائيّ مرّ بصمت وهدوء كرَّس سلطة الرئيس الحاليّ حتى العام 2034، دون أيّ حساب وخنق الحريّة الأكاديميّة والعلميّة والصحفيّة، بل والإبداعيّة بكافّة أبعادها عبر إقصاء لكلّ من يحاول التحذير من عواقب الأمور، ويدعو إلى البحث الجادّ في القرارات والخطوات والتصرّفات الدوليّة والمحليّة، لتصبح مصر اليوم وهي بلاد النيل أمام خطر داهم من إصابتها بالجفاف بسبب سدّ النهضة الذي اتّضح أنها لم تأخذ على محمل الجدّ التحذيرات من أخطاره أو تصريحات أثيوبيا، ولم تضع استراتيجيّة لمواجهة ما يحدث ثم لجأت الى الوسائل التي أكل الدهر عليها وشرب، وفي مقدمتها الأمم المتحدة لحلّ أزمة كان بإمكانها منعها لو امتلك الأكاديميّون والخبراء من المدنيّين والعسكر والسياسييّن الشجاعة للاعتراف بأنهم أخطأوا في تقدير خطورة الموقف، وبالتالي يجب تحفيز التفكير عن حلول مبتكرة، وإن لم يكن ذلك كافيًا أقصت المؤسّسة الحاكمة ، والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي القادم من الجيش، الهيئات المدنيّة عن مواقع التأثير الاقتصاديّة ليسيطر الجيش اليوم على أكبر نسبة من الاقتصاد، دون أن يأخذ أحد العبرة من تجارب الغير والنتائج الكارثيّة لسيطرة الجيش على الاقتصاد.
"رتوش الديمقراطيّة"
الأمثلة الثلاثة رغم تفاوت حدّتها تعكس الحال في ثلاث دول تشهد اليوم انهيارًا متفاوتًا، فإسرائيل انهارت لحمتها الداخليّة وقوّة ردعها الخارجيّة، وهي التي لم تنجح في تذويت "التربية للمواطنة أو التربية المدنيّة " التي تعتمد القيم الديمقراطيّة الحقيقيّة واحترام التعدّديّة وحريّة الرأي، بل كرَّست ألأخيرة مبدأ القوّة العسكريّة، وزادت في العقود الأخيرة من تطرّفها اليمينيّ وتوزّعت إلى طوائف وجماعات ومجموعات، وها هي اليوم على عتبة حرب أهليّة أو انهيار للفصل بين السلطات وتحوّل إلى دكتاتوريّة تظهر معها كلّ أشباح الماضي التي أخفتها " رتوش الديمقراطيّة " والحديث عن دولة، وليس طوائف بفعل التهديدات الخارجيّة، وروسيا تخسر بل خسرت، بسبب انعدام التربية للمواطنة والحريّة والفكر ، مكانتها وهي اليوم بحاجة لعطف ودعم دول كانت "تابعة لها" تنشد ودّها حتى ما قبل سنوات ، منها إيران وغيرها، وكذلك مصر التي تحوّلت من مخزن للقمح في العالم- باعت القمح والقطن لروسيا والعالم- إلى بلد يعاني المجاعة والبطالة والفقر، ويكافح شبابه للحصول على كسرة خبز، والبديل الوحيد هو الهجرة وربما الموت في عباب البحار، وفي هذه الدول الثلاث وانهيارها المتفاوت تزداد " شعبيّة الغوغائيّين والمتسلّقين والمنافقين والباحثين عن المصلحة والربح الآنيّ، والمتسيّسين ومادحي الزعماء من الإعلاميّين ورجال الدين، والانتهازيّين من مختلف الأشكال والأنواع"، فهؤلاء لا تهمّهم النتيجة فهم الرابحون إذا فاز الحاكم الذي يمدحونه، وهم الفائزون بانتهازيّتهم إذا تنحّى من يمدحونه جانبًا، والدور على الحاكم القادم تمامًا كما قال ابن خلدون في مقدّمته:"عندما تنهار الدول يكثر فيها المنجمّون والمتسوّلون والمنافقون والمدّعون والكتبة والقوّالون والمغنون النشاز والشعراء النظَّاميون والمتصَعلِكون وضاربو المندل، وقارعو الطبول والمتفقّهون وقارئو الكفّ بالطالع والنازل والمتسيّسون والمادحون والهجّائون وعابرو السبيل والانتهازيّون فتتكشّف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير وتختلط المعاني والكلام ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل"، ويضيع قول الحقّ فيصمت الكثيرون وينطق قلائل بالقول ، قلّة منهم صدقًا وقول حق وغيرهم لمصلحتهم الذاتيّة.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا