logo

يضيع صوت الحُكماء في ضجيج الخُطباء والمزايدات على الانتماء

المحامي زكي كمال يكتب:
18-08-2023 05:35:14 اخر تحديث: 18-08-2023 05:42:42

وإن كانت تبعات الانقلاب القضائيّ بمنظورها الواسع غير واضحة بعد، رغم أنّ ملامحها الحاليّة والمرحليّة والأوّليّة ربّما، لا تبشّر خيرًا، بل تُنبئُ بشرٍّ قادم كبير إذا ما تمّ تنفيذها


المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت

بحذافيرها أو بنصوصها المخفّفة وفق الائتلاف الحكوميّ اليمينيّ الحاليّ، فإنّها ربّما في رمية من غيرِ رامٍ، تشكّل اليوم وسوف تشكّل في المستقبل يقينًا وبغض النظر عن نتائجها النهائيّة، مادّة دسمة للمؤرّخين على المدى البعيد، كما تشكّل اليوم، وعلى المدى القريب والآنيّ، مادة تُشغِل المراقبين والصّحافيّين والمحلّلين السياسيّين والقانونيّين وعلماء الاجتماع، وخبراء العلوم السياسيّة والاجتماعيّة على المدى المتوسّط باعتبارها تندرج ضمن ما يسمّى "علم الاجتماع السياسيّ"، الّذي يؤكّد الباحثان سيمور ليبست ورينارد بندكس، أنّ أهدافه تتمحور، بشكل عامّ، حول بحث العلاقة بين السياسة وعلم الاجتماع، وتحديدًا بحث السلوك الانتخابيّ في المجتمعات المحلّيّة والقوميّة، ودراسة الاتّجاهات والآراء، ودراسة العلاقة بين القرارات السياسيّة والقوّة الاقتصاديّة، وبحث علاقة الأيديولوجيّات بالحركات السياسيّة عامّة وجماعات المصلحة خاصّة (جماعات تستخدم الأيديولوجيا لتحقيق أهداف ضيّقة تصبّ في مصلحتها فقط وليست في المصلحة العامّة)، أي فحص فحوى ومضمون وتبعات ومنطلقات وأسباب التحرّكات السياسيّة بمفهومها الداخليّ والخارجيّ، وعلاقتها بالحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، أو ضرورة أخذ الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة بعين الاعتبار قبل اتّخاذ قرارات سياسيّة ومنها خطة الانقلاب الدستوريّ، الّتي تثير أسئلة عديدة ومتنوّعة حول قضايا واسعة تفوق الحيّز الضيّق والظاهر للعيان اليوم للمجريات التي تلفّ خطوات الانقلاب القضائيّ، والتي يعترف الجميع بمن فيهم مؤيّدوها قبل معارضيها أنّها قرار تمّ اتّخاذه دون دراسة مسبقة ودون فحص "ساحة المعركة" بل دون أي تفكير مسبق، وهو ربّما ما يفسّر الفارق أو البون الشاسع بين المنشود منها، في نظر الحكومة والائتلاف، والموجود على أرض الواقع، من احتجاجات ومعارضة واسعة ومسٍّ بالاقتصاد والقدرة العسكريّة والجاهزيّة الكاملة للجيش الإسرائيليّ بكامل فرقه وكتائبه وجنوده، وهي خطوات تؤكّد أنّ الواقفين خلفها فشلوا من البداية حتّى النهاية في نشاطهم، وأنّ اعتباراتهم كانت غير مدروسة ليس فقط في حكم السياسة ومنطق النتيجة، بل أنّها فاشلة حتّى وفق أبسط تعريفات "إدارة المشاريع" والّتي تنصّ على ضرورة النظر في المراحل الضروريّة لأيّ مشروع كان، وهي خمس مراحل: أوّلها بدء المشروع بما في ذلك بحث الجدوى والمخاطر واحتمالات التنفيذ، وثانيها التخطيط للمشروع، وثالثها تنفيذ المشروع، ورابعها المراقبة والمتابعة والتحكّم نحو تحقيق المعرفة المفيدة والتعلّم ما يحقّق مزيدًا من التطوّر وتعزيز الإطار المؤسّساتيّ الّذي تتحقّق ضمنه الأهداف، وخامسها إنهاء المشروع بنجاح، وهي خطوات خمس يؤكّد علماء وخبراء الإدارة والقيادة أنّها تتكوّن من 47 عمليّة، تخصّ 24 منها التخطيط والباقي للتنفيذ والتقييم بعد التنفيذ، بمعنى أنّ التخطيط يستحوذ على أكثر من نصف إدارة المشاريع، وأنّ التخطيط السليم والمتأنّي والمدروس، يضمن أكثر من نصف النجاح، وبالتالي جاءت النتيجة، كما هي اليوم، فاشلة وغير كاملة، بل إنّها تضع المزيد من العقبات أمام التنفيذ أو مواصلة التنفيذ، الكلّيّ أو الجزئيّ.

الأسئلة العامّة وبعيدة المدى التي تثيرها الأحداث الأخيرة في إسرائيل والمتعلّقة بالانقلاب القضائيّ – الدستوريّ، بالأحرى كنتيجة حتميّة لحكومة تضمّ بين جنباتها الأحزاب المتطرّفة سياسيًّا ودينيًّا التي اجتمعت في ائتلاف واحد غير مسبوق، والسياق العامّ الذي جاء فيه هذا الأمر، والأهداف التي تحاول هذه الأحزاب تحقيقها بسرعة البرق وعبر تطويع كافة القوانين والتشريعات، وتغيير المبنى التقليديّ للفصل بين السلطات الثلاث في النظام الديمقراطيّ، وحدود استخدام القوّة سواء كانت عسكريّة ضدّ أهداف خارجيّة أو داخليّة حزبيّة أو برلمانيّة مقابل المعارضة بتركيبتها المتنوّعة، أو حكوميّة واقتصاديّة بأبعادها المتعلّقة بغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار خاصّة الشقق، والسياسيّة الداخليّة المتعلّقة بالمواطنة وحقوق الأقلّيّات القوميّة والدينيّة وغيرها من الأقلّيّات، أو حدود استخدام القوّة الداخليّة أو قوّة الشرطة لضمان الأمن الداخليّ، وهو ما يتعلّق في حالتنا اليوم بأمرين: أوّلهما تصرّف الشرطة خلال مظاهرات الاحتجاج والمعلومات والأدلّة المتراكمة والمتزايدة حول إساءة الشرطة في استخدام صلاحيّاتها بشكل عنيف، ومحاولة قمع الاحتجاجات ومنع حرّيّة التعبير عن الرأي بدوافع سياسيّة، تتعلّق بخلط الأوراق أو مسح الخيط الرفيع الفاصل بين القيادة السياسيّة أو الصلاحيّة السياسيّة وهي الوزير المسؤول إيتمار بن غفير، والقيادة المهنيّة والميدانيّة أي المفتّش العامّ للشرطة يعقوب شبتاي وقادة الألوية وخاصّة لواء تل أبيب حيث تتمحور الاحتجاجات والمظاهرات، خاصّة على ضوء رغبة بعض الضبّاط الكبار في الشرطة بنيل استحسان ورضى الوزير بن غفير، الذي يريد يدًا من حديد ضدّ المتظاهرين باعتبارهم في نظره جماعة من الفوضويّين والمنفلتين واليساريّين المتطرّفين يجب قمعهم، خاصّة وأنّ الشرطة على عتبة سلسلة من التعيينات في مقدّمتها القائد العامّ أو المفتّش العامّ للشرطة يعقوب شبتاي، علمًا أنّ التجارب تشير إلى أنّ احتمالات وقوع حوادث ملخّصها إساءة استخدام القوّة تبقى أمرًا واردًا، حتّى في ظلّ سياسات قمعيّة ووجود جهة سياسيّة تؤكّد حرّيّة التعبير والتظاهر، بمعنى أنّها تزداد حتمًا في ظلّ وجود ثقافة سياسيّة ومؤسّساتيّة تبيح استخدام القوّة، بل ربّما تسعى إليها وتحثّ عليها، وهذا ليس العامل الوحيد، بل تُضاف إليه أسباب أخرى منها أنْ تعتمد السياسة على مواقف "هم ونحن" بمعنى التساهل مع "نحن" أي من يؤيّد مواقفنا وسياساتنا، وتتعمّد القوّة والعنف مع" هم" المخالفين لسياساتنا ومواقفنا وتوجّهاتنا، أي تغليب الولاء الضيّق على النزاهة، فالمعايير التي تحكم استخدام القوّة وتحقيق التوازن بين الحرّيّة واستخدام القوّة الشرطيّة، تتطلّب وجود سلطة قويّة تؤكّد وجود المساءلة لردع السلوك العنيف وتعيد ثقة الجمهور بعمل الشرطة، بل تساهم في تعزيز ثقة قادة الشرطة بقدراتهم وصلاحيّاتهم.

من جهة أخرى، إنّ استخدام" القوّة الشرطيّة" في الحالة الراهنة، وانطلاقًا من السياسات العليا للوزير أو للسلطة السياسيّة، وسعيهم إلى توظيف القوّة الشرطيّة والسماح باستخدام القوّة والعنف أحيانًا لفضّ الاحتجاجات العارمة للأسبوع الثالث والثلاثين على التوالي، يتمّ سحب هذه القوّة من مواقع مختلفة أخرى، ومنعها أو الحيلولة دون تمكينها أو نجاحها أو محاولتها على الأقلّ تأدية مهامّها الأساسيّة وهي الحفاظ على أمن المواطن الشخصيّ، وضمان سير الحياة المعتاد ومكافحة العنف بكافّة أشكاله، هو ما تمخّض عنه" إفساح المجال" أمام العناصر الجنائيّة المختلفة في إسرائيل عامّة والمجتمع العربيّ خاصّة، لممارسة عنفها وجرائمها والتي أوقعت حتّى موعد كتابة هذا المقال قرابة 150 ضحيّة من القرى والمدن العربيّة، ناهيك عن جنايات أخرى لا تكاد الشرطة تصل إلى موقع أو مكان وقوعها بسبب نقص القوى البشريّة والعتاد، أو ربّما بفعل قرار سلطويّ قوامه اعتبار الأمن الشخصيّ حصرًا على اليهود، أو تفضيلهم فيه، فالدولة بالنسبة للوزير المعنيّ، هي لليهود فقط.

" تحقيق الفكرة الصهيونيّة"
اِستخدام القوّة لا ينحصر في الشأن الداخليّ، بل إنّه يندرج أيضًا على الشأن الفلسطينيّ وما تنفّذه الحكومة الحاليّة من تطبيق لتعليمات التوراة التي اتّبعتها الحركات الاستيطانيّة والتي مكّنتها من العمل بحرّيّة منذ عام 1967 حكومات ادّعت العلمانيّة والليبراليّة والرغبة في أن يتحوّل اليهود إلى جزء من العالم وبقيادة زعماء ينتمون إلى التيّارات العمّاليّة التي أقامت إسرائيل، ومنها حركة "غوش إمونيم - كتلة الإخلاص لأرض إسرائيل" التي رفعت منذ أوّل أيّامها وقبل الاستيطان في منطقة سبسطية والخليل والقدس الشرقيّة شعار: "أرض إسرائيل كلّها كاملة غير منقوصة، هبة الله لشعب إسرائيل. تحقيق الفكرة الصهيونيّة يستوجب ليس فقط تحرير الأرض والشعب بل التحرير التامّ كما وصفه أنبياء إسرائيل وكما يتوق إليه شعب إسرائيل منذ القدم". وهذا يعني الإيمان بأنّ سيادة اليهود على كافّة أرض إسرائيل التوراتيّة - التي تضمّ أيضًا دولًا عربيّة منها مصر وسوريا والأردن والعراق ولبنان - هي وعد إلهيّ، يجب العمل على تحقيقه وفق التعاليم التوراتيّة وليس وفق العدل والإنصاف والعدالة، أي معاقبة وطرد من يحاول قتل اليهود والمسّ بهم، وترحيل العرب أصحاب التطلّعات القوميّة، وهي توجّهات وجدت طريقها إلى "التيّارات المركزيّة " وأصبحت التوراة وتبريراتها لاستخدام القوّة منارة أمام الكثيرين حتّى أنّ حزب إيتمار بن غفير أصبح مشاركًا شرعيًّا في الحكومة، رغم كونه من أتباع مئير كهانا الذي قال إنّ الانتقام من العرب هو عمل مقدّس، كما دعا إلى تطبيق خطوات أخرى خطيرة منها إبعاد العرب عن منطقة الحرم القدسيّ الشريف، وإقامة الهيكل اليهوديّ. كما ونادى بطرد الأغيار من البلاد، واقتلاع "عبادة الأوثان" في الكنائس من جذورها (تندرج ضمن ذلك محاولات مؤخّرًا للاستيلاء على كنائس منها كنيسة مار إلياس في حيفا وتحويلها إلى موقع لصلاة اليهود، وقبلها السيطرة على مساجد ومنها الحرم الإبراهيميّ الشريف في الخليل وتقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا)، وهي محاولات كانت ستؤدّي إلى نبذ إسرائيل دوليًّا ووضعها أمام معارضة عالميّة لأفعالها، وهذا المطلوب في نظره "لأنّه تعبير عن اكتمال الإيمان اليهوديّ، وعندها سينتقم الله من الأغيار الذين يدنّسون اسمه وسيخلّص إسرائيل منهم" ، وهو نفس إيمان ومعتقد أحزاب في الائتلاف منها حزب وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش الذي دعا شخصيًّا إلى تنفيذ خطّة أسماها "خطّة المراحل" التي تنتهي بطرد العرب والفلسطينيّين حتّى لو استوجب ذلك قتلهم، أو قبولهم بالبقاء كمواطنين أقلّ حقوقًا أو دون حقوق في دولة اليهود".

هذا يقودنا إلى المزيد من الأسئلة والتساؤلات التي يطرحها أو يتطلّب طرحها الوضع الحاليّ، والتي تحتّمها طبيعة الائتلاف الحاليّ والحكومة الحاليّة حيث تحوّلت اليهوديّة كديانة إلى قوميّة ودين في آن واحد معًا، في حالة تؤكّد أنّ انتقال إسرائيل من دولة ديمقراطيّة أوروبيّة بنتها الحركة الصهيونيّة عبر اليهود العلمانيّين القادمين من أوروبّا ودولها الديمقراطيّة والليبراليّة على الأقلّ، وانضمّ إليهم لاحقًا اليهود الذين قدموا من دول عربيّة وهم أكثر محافظةً وتديّنًا وأقلّ علمانيّةً وتحضّرًا وليبراليّةً، إلى دولة ديمقراطيّة ويهوديّة ثمّ يهوديّة وديمقراطيّة، ثمّ يهوديّة أو حتّى لليهود فقط بعد سنّ قانون القوميّة عام 2018 وبنوده التي تعتبر إسرائيل وطنًا قوميًّا لليهود أينما كانوا، وتعتبر بناء المدن الجديدة حقًّا حصريًّا لهم دون غيرهم وتلغي المكانة الرسميّة للغة العربيّة، لغة الأقلّيّة القوميّة العربيّة في إسرائيل، وذلك بتأييد أحزاب نقشت على رايتها راية الصهيونيّة والعلمانيّة، ما يثير التساؤلات بل والأسئلة حول ما إذا كانت الحركة الصهيونيّة بصيغتها الّتي حصلت على العطف الدوليّ والتأييد العالميّ لإقامة دولة إسرائيل في فلسطين، خاصّة بعد رفض الدول العربية باسم الفلسطينيّين، قرار التقسيم الذي نصّ على إقامة دولتين: يهوديّة وعربيّة (ليست فلسطينيّة وفق قرار التقسيم 181)، تضمن كلّ منهما بل تتعهّد بعدم انتهاج التمييز ضدّ أيّ إنسان كان على خلفيّة العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس، والتي بذلت جهودها لتلبس نفسها ثياب العلمانيّة كما برز من خلال رسوماتها وإعلاناتها مطلع القرن العشرين والتي ركّزت على كونها أوروبيّة تجيء لإخراج اليهود من المنفى لإقامة وطن قوميّ علمانيّ، يقبل الشرعيّة الدوليّة، ويلتزم بحقوق الإنسان والقوانين الدوليّة كما جاء في وثيقة الاستقلال الإسرائيليّة، والتي تشكّل في نظر الكثيرين دستورًا أو شبه دستور، قال عنها دافيد بن غوريون رئيس الوزراء الأوّل لإسرائيل، ردًّا على طلب مئير فيلنر من الحزب الشيوعيّ والذي وقّع على الوثيقة: "إنّها تكفل وتشمل القضايا الأساسيّة والرئيسيّة التي طلبتها الأمم المتّحدة، وإنّه لا شكّ أنّها ستشمل أو تتطرّق لاحقًا إلى قضايا أكثر تفصيلًا "، ما إذا كانت فعلًا قد ابتعدت بنفسها عن الديانة اليهوديّة أو عن المطامع التوراتيّة.

والجواب هنا قد يفاجئ الكثيرين، وهو النفي، بل إنّها أجادت التظاهر بذلك رغم أنّها أشارت إليه حتّى في إعلانات نشرتها عام 1901، وعلى وقع وخلفيّة صورة يهوديّ ملتحٍ يقبع خلف أسلاك شائكة، ومقابله صورة ملاك جميل الملامح بأجنحة عملاقة، وكتبت تحتها جملة من التوراة جاء فيها: "عيوننا تنظر بشوق للعودة إلى صهيون"، وليس إسرائيل، وبعد إقامة الدولة بفعل استغلال النظام العالميّ الجديد بعد الحرب العالميّة الأولى وإدراك قادة الحركة الصهيونيّة أنّ الأمر الواقع وبفعل النظام العالميّ الجديد وميزان القوى العالميّ الذي يميل لصالحهم، بدأت ملامح العودة إلى "اليهوديّة" والتعاليم الدينيّة التي تنصّ على أنّ أرض إسرائيل بكاملها تتبع لشعب إسرائيل، وأنّه متاح استخدام كافّة الوسائل للمسّ بالأعداء والخصوم من باب القول: "من يأتِ لقتلك فسارع إلى قتله"، وتجلّت عبر إصدار دافيد بن غوريون تعليمات بتنفيذ حرب بيولوجيّة عبر محاولة مقاتلي البلماح (قوّات الصاعقة اليهوديّة المنتمية إلى الحركة العمّاليّة المعتدلة نسبيًّا قياسًا بالحركة الإصلاحيّة اليمينيّة التي أنجبت الليكود) تسميم الآبار في منطقة غزّة ليتمّ كشفهم واعتقالهم وإعدامهم، وتواصلت في قَلب إسرائيل ظهر المجن للشرعيّة الدوليّة والمؤسّسات الدوليّة التي كانت سبب إقامتها، ممثّلة بالعبارة الساخرة لبن غوريون حول الأمم المتّحدة: "المنظّمة فارغة المضمون" أو " أوم – اختصار أوموت مؤوحدوت وهو اسم الأمم المتّحدة بالعبريّة - شْموم - كلام فارغ"، والسماح للحاخام الرئيسيّ للجيش شلومو غورين عام 1960، وفي خطوة معناها اعتبار حروب إسرائيل حروبًا دينيّة مقدّسة، بكتابة النصّ التالي على النصب والشواهد في المقابر العسكريّة: "لتكن أرواحكم محفوظة في مصافّ الأحياء وعرف إلهكم ، لأنّكم حاربتم في حرب الله"، وقول دافيد بن غوريون بعد ذلك: "ليس المهمّ ما يقول الأغيار بل المهمّ هو ما يفعله اليهود"، وبعدها قول الجنرال حاييم هرتسوغ عام 1967، وبعد احتلال القدس: "فخرنا أن فزنا بأنّ جيش الدفاع ومعه جيش الربّ، يقف في مدخل مدينة القدس، المدينة الخالدة"، ومن ثم قيامه كسفير إسرائيل في الأمم المتّحدة بتمزيق قرارها الذي اعتبر الصهيونيّة حركة عنصريّة، في أفضل تجسيد للوضع الحاليّ الذي تتماهى فيه الصهيونيّة بل وتتساوق مع اليهوديّة، لتدير ظهرها للقرارات الدوليّة الصادرة عن المؤسّسات السياسيّة أو القضائيّة أو غيرها، ومواصلة احتلالها الضفّة الغربيّة وشرقي القدس واستيطانها في المنطقتين، وخرق اتّفاقيّات وتعهّدات قطعتها حكوماتها السابقة أمام دول العالم ومنها قرار إخلاء المستوطنات في شمال الضفّة الغربيّة، والتعهّد بذلك أمام الولايات المتّحدة، بل ربّما أكثر من ذلك عبر استمرار الحديث عن الرغبة في العودة إلى المستوطنات التي تمّ إخلاؤها في قطاع غزّة عام 2005 عبر الانسحاب من طرف واحد في عهد حكومة أريئيل شارون.

وإذا كانت عمليّة اقتران الصهيونيّة بالديانة اليهوديّة تمّت خلسة في عهد الحكومات السابقة في إسرائيل، فإنّها تتمّ على رؤوس الأشهاد في هذه الحكومة، عبر تشجيع الاستيطان فوق كلّ تلّة وفي كلّ بقعة في الضفّة الغربيّة، واعتبار المستوطنين، حتّى الذين قتلوا منهم فلسطينيّين، أبطالًا يحملون راية اليهوديّة والتوراة ويدافعون عن حقّ اليهود في الأرض التي وعدهم الله بها في توراتهم، وقبلها اعتبار العرب فيها أغيارًا كما تعتبرهم التوراة، وبالتالي وضعهم تحت الحكم العسكريّ، وهي عمليّة مستمرّة حتّى اليوم تؤكّد ضرورة الطرح الشجاع للسؤال، حول ما إذا كانت إسرائيل، كدولة تريد الحياة والبقاء في منطقة الشرق الأوسط ، يمكنها أو بإمكانها أو من مصلحتها أن تقبل باستمرار الاعتماد على نصوص توراتيّة ختامها حالة من الحاجة الدائمة لاستخدام القوّة ضدّ أهداف وجهات في الخارج عملًا بقول التوراة: "إلى الأبد تستخدم السيف" أو ضدّ أهداف داخليّة، بعضها يهوديّ، لضمان السيطرة التامّة بعيدًا عن الديمقراطيّة والليبراليّة، ومن هنا يأتي دعم الأحزاب الدينيّة واليمينيّة المتطرّفة للانقلاب الدستوريّ، فهو يعزّز نفوذ المحاكم الدينيّة اليهوديّة ورجال الدين والفصل بين الجنسين والتمييز ضدّ النساء والعرب والمثليّين وغيرهم، بدلًا من العودة إلى القيم الليبراليّة والعالميّة وتكريس بل تعزيز النهج الديمقراطيّ.

"الوهن والضعف"
ولكن يبدو أنّ إسرائيل ليست وحيدة في ذلك، فالوهن والضعف يصيبان الديمقراطيّة في معظم بقاع العالم، بخلاف توقّعات البروفيسور أريكا فرنز من جامعة ميتشيغن في الولايات المتّحدة التي توقّعت أن يؤدّي انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الاتّحاد السوفييتيّ إلى نشوء دول جديدة تعتنق الديمقراطيّة والليبراليّة نظامًا للحكم، وخاصّة يكثر الحديث عن بولندا وهنغاريا، التي أجاد رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، الصديق الحميم لبنيامين نتنياهو وصف حالة التدهور التي وصلت إليها هنغاريا حين قال إنّ بلاده هي "دولة ديمقراطيّة غير ليبراليّة"، أي أنّ رئيسها أو زعيمها الذي تمّ انتخابه ديمقراطيًّا يواصل حكم البلاد كحاكم وحيد وأوحد، أي أنّ دكتاتوريّات اليوم تبدأ ديمقراطيّة ثمّ تتحوّل إلى دولة الرجل الواحد أو الحزب الواحد، ليقوم الدكتاتور باستغلال الديمقراطيّة لصالح بقائه في السلطة والحكم، كما فعل أغوستو بينوشيه في تشيلي في سنوات السبعينات من القرن الماضي حيث انقلب على حكومة تمّ انتخابها ديمقراطيًّا، ثمّ فكّك السلطة من الداخل وألغى الانتخابات والفصل بين السلطات، وواصل حكمها دكتاتورًا حتّى وفاته عام 2013. وربّما هنا المكان للتذكير بأنّ نتنياهو وشركاءه يصفون الانقلاب القضائيّ، بأنّه" تعزيز للديمقراطيّة" وأنّه استغلّ المظاهرات الاحتجاجيّة للادّعاء بأنّها دليل على الديمقراطيّة في إسرائيل، وأنّ سعيه للحوار مع المعارضة هو دليل على الديمقراطيّة، علمًا أنّ الحوار كان خطوة مدروسة من نتنياهو لدقّ إسفين بين المعارضة الحزبيّة والبرلمانيّة وحركة الاحتجاج الشعبيّة، ومحاولة إضعاف المعارضة البرلمانيّة.

خلاصة القول، إنّ تدهور القيم الديمقراطيّة وضعف سلطاتها وتدهور الدولة نحو الدكتاتوريّة يتمّ من الداخل وخاصّة عبر زعماء يملكون من الموهبة الشخصيّة الكثير، ويملكون حسًّا وموهبة وقدرة جذب العامّة وتجنيدها لمصلحتهم، ونتنياهو ربّما أفضلهم في ذلك، لكن يجب التحذير من أنّ القليل أو النزر اليسير من الدول والمجتمعات يمكنها فقط استعادة عافيتها، إذا ما تدهورت نحو الدكتاتوريّة وحكم الرجل والزعيم الواحد، وهو تدهور لا يدركه ربّما العامّة أو قسم منهم الذين لا يملكون من الوعي والإدراك ما يكفي لفهم ما هو معقول ومقبول وما هو غير مقبول في النظام الديمقراطيّ، وهو ما ينعكس في التناقض بين إعلان كثيرين وفي دول عديدة في العالم ومنها إسرائيل، دعمهم للديمقراطيّة ورغبتهم في العيش في دولة ديمقراطيّة، لكنّهم في الوقت نفسه يدعمون زعماء وأحزابًا تتّخذ خطوات تُبعد الدولة عن الديمقراطيّة. وفي دعمهم هذا نعود إلى عبرة يؤمن بها أولي الألباب، قبل فوات الأوان، وهي أنّ الدكتاتوريّة طريق باتّجاه واحد، ومكان يسهل الوصول إليه ربّما بنوايا طيّبة من المواطنين، أو عبر استغلال سذاجتهم، ولكن يصعب، بل يستحيل العودة منه، خاصّة إذا أصرّ الزعيم الأوحد على الخطأ، وأقنع مؤيّديه أنّه يعمل لمصلحتهم ولا يريد المسّ بحقوقهم، وهو ما يثير القلق والغضب والاستغراب أيضًا، عملًا بقول دوستويفسكي: " لا يغيظني الوقوع في الخطأ، فهو شيء يمكن التسامح فيه، وهو شيء رائع لأنّه يؤدّي إلى معرفة الحقيقة، لكن ما يغيظني هو الإصرار على إنكار الخطأ"، وفي زمننا هذا نعود إلى ما قاله العلّامة ابن خلدون: "يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء والمزايدات على الانتماء".

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il