المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا
والهادفة إلى محاولة التوصّل إلى صيغة متّفق عليها للتغييرات الواجب إدخالها على الجهاز القضائيّ في إسرائيل، ووسط ضجيج تعاظم وتفاقم للشرخ الذي تعيشه إسرائيل بفعل الانقلاب القضائيّ الذي تقوده الحكومة، والذي وصل حدّ منع بعض الوزراء خاصّة أولئك من الأحزاب الدينيّة المتزمّتة- الحريديم- وأولئك من الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة الذين لم يؤدّوا الخدمة العسكريّة من إلقاء كلمات خلال مراسم يوم الذكرى لجنود الجيش الذي يسبق يوم الاستقلال وفق التقويم العبريّ، شهدت الساحة الإسرائيليّة ثلاثة أحداث لم تحظ بالاهتمام الكافي إعلاميًّا وقضائيًّا وسياسيًّا، بسبب توقيتها ، أوّلها المظاهرة الصاخبة والتي نظّمها أنصار اليمين والليكود لدعم الانقلاب القضائيّ أمام منزل الرئيس الأسبق لمحكمة العدل العليا القاضي المتقاعد البروفيسور أهارون باراك والذي تعرّض خلالها للسبّ والشتم والقذع والاتهام بأنه دكتاتور قضائيّ، وحتى المطالبة بمحاكمته بتهمة الخيانة. وهي مظاهرة ردّ عليها معارضو الانقلاب القضائيّ بتظاهرة تأييد في نفس الموقع، ذرف خلالها باراك الدموع حزنًا على ما وصلت إليه الدولة من حال سيّء، وثانيها قرار محكمة العدل العليا بتركيبة ثلاثة قضاة هم ياعيل فيلنر وأليكس شتاين ويتسحاق عميت، تمكين 171 مواطنًا فلسطينيًّا من دخول إسرائيل للمشاركة في حدث سنويّ يحمل اسم " مهرجان الذكرى البديل" الذي تشارك فيه عائلات يهوديّة إسرائيليّة وعائلات فلسطينيّة فقدت أعزاءها جراء الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، دون أن تكون للضحايا علاقة مباشرة بأيّ عمليّة عسكريّة كانت، وردود الفعل اليمينيّة الغاضبة عليه، والتي اتهمت المحكمة العليا باليساريّة ودعم الإرهاب وتفضيل الفلسطينييّن، واتهام المستشارة القضائيّة للحكومة جالي بهراب ميارا بالتساهل مع الفلسطينيّين، وفرض مواقفها السياسيّة على الحكومة ووزير الأمن، والمطالبة إزاء ذلك بتسريع الانقلاب القضائيّ، وثالثها ردّ الحكومة الحاليّة على التماسات قدّمتها هيئات استيطانيّة يمينيّة متطرّفة ممثّلة في الائتلاف الحكوميّ الحاليّ، حول عدم تنفيذ أوامر الإخلاء الصادرة بحقّ فلسطينيي الخان الأحمر إلى الشرق من القدس، والذي جاء فيه أن القرار حوّل الإخلاء وتنفيذه من عدمه، أو موعد تنفيذه هو قضية سياسيّة لها أبعاد سياسيّة خارجيّة وداخليّة، وأنه لذلك يصبح قرارًا سياسيًّا لا يحقّ للمحكمة التدخّل فيه، وردود الفعل بعده والتي اختار بعضها مهاجمة محكمة العدل العليا بدلًا من حكومة اليمين مئة بالمئة، كما يحلو للكثيرين وصف الحكومة الحاليّة. وهي أحداث ثلاثة تشكّل في مجملها تأكيدا ما بعده تأكيد على الهدف الأساس للانقلاب القضائيّ، أو المستهدف الرئيسيّ والأول هو الانقلاب الدستوريّ بواسطة ما يسمّيه اليمين التعديلات القضائيّة، وهو ما حاول الائتلاف الحاليّ والحكومة الحاليّة ومؤيّدو هذا الانقلاب للجهاز إخفاءه بحجج واهية، وتحت شعارات رنّانة؛ منها إصلاح الجهاز القضائيّ وإعادة التوازن أو التوازنات والضوابط بين السلطات الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، أو ضمان التمثيل المناسب وزيادة عدد القضاة المحافظين وغيره وغيره من المسمّيات، لتأتي هذه الأحداث الثلاثة مؤكّدة أن المستهدف هو انقلاب دستوريّ بواسطة إضعاف محكمة العدل العليا بحكم كونها السلطة الأعلى قضائيًّا، وأن المعارضة لها ليست جديدة، بل إنها تعبير عن مشاعر انتقام دفينة وقديمة يبحث منفّذوها عن ضحية يجعلونها عنوانًا لنقمتهم، وإلا فلماذا التظاهر أمام منزل شخصيّة قانونيّة وقضائيّة دوليّة السمعة مثل أهارون باراك، وهو الذي أنهى مهام منصبه رئيسًا لمحكمة العدل العليا منذ العام 2006، أي منذ 17 عامًا ولا علاقة له بلوائح الاتهام المقدّمة بحق نتنياهو ، إضافة إلى أن بعض رؤساء المحكمة منذ إنهاء أهارون باراك مهامّ منصبه هم من المحافظين واليمينيّين، وهو ما يؤكّد أن الانقلاب القضائيّ لم يأت لتصليح غبن ما في الجهاز القضائيّ، بل إنه نتاج عداء تاريخيّ ومزمن لمحكمة العدل العليا من جهة، وانقلاب دستوريّ من جهة أخرى، هدفه الوحيد هو تقزيم الجهاز القضائيّ، والبداية محكمة العدل العليا باعتبار السيطرة عليها، وتعيين القضاة فيها وفق أهواء نتنياهو ومؤيّديه، ولضمان تحريره من قيود محاكمته، ومن خطر السجن بعد إدانته بالتهم الموجّهة إليه، فالعليا هي الرأس، ومنه سيتمّ الانتقال عبر لجنة تعيين القضاة إلى المحاكم المركزيّة ثمّ الصلح أيّ الهيئتين القضائيّتين الأقلّ مرتبة، ومعهما المستشاران القضائيّان للحكومة، والمستشاران في الوزارات. وهو ما أكّدته ردود اليمين على قرار منح الفلسطينيّين حقّ دخول إسرائيل للمشاركة في مراسم إحياء ذكرى أعزّائهم الذين فقدوهم بسبب النزاع والصراع، وكذلك القرار حول الخان الأحمر والردود عليه، والتي تصبّ في مجملها في تحويل محكمة العدل العليا إلى شمّاعة تعلّق عليها كافّة الاتهامات، وإلى عدو أول يجب الانقضاض عليه، أي أنه يمكن القول اليوم إنه ورغم تعدّد الطروحات والتشريعات التي تريد الحكومة الحالية تمريرها وإقرارها تنفيذًا للسياسة اليمينيّة تحت ذريعة الإصلاح القضائيّ تعّددت وتغيرّت الأهداف المعلنة، وهي ليست الحقيقيّة بالضرورة لها، لكن الهدف الأساسيّ تحديدًا، هو انقلاب دستوريّ يجعل دولة إسرائيل غير ديمقراطيّة كليًّا، وذلك بواسطة تقزيم مكانة محكمة العدل العليا، ولي ذراعها وترهيبها والسيطرة عليها بعدة طرق ووسائل، عبر قانون يجيز للحكومة، أو البرلمان أن يلتف على قرارات تصدرها المحكمة بأغلبية 61 عضو برلمان، أي منح الحكومة والبرلمان إمكانيّة الالتفاف على كلّ قرار للمحكمة لا يعجبها، علمًا أن بعض ممثّلي الحكومة يعلنون صراحة أنهم يقصدون خلق شروط قضائيّة مريحة لهم حتى لو بثمن الانتقاص من وزن ووظائف الجهاز القضائيّ نفسه، ومنع المحكمة العليا من التدخل في قرارات سياسيّة، أو أخرى تتخذها الحكومة باعتبارها قرارات تفتقر إلى السبب المقنع، أو تفتقر إلى معطيات وأدلّة كافية، كما الحال في قضية العائلات الفلسطينيّة التي قرّر وزير الأمن منع دخولها إسرائيل بحجّة أنها تدعم الإرهاب، وأنها عائلات ارتكب أفرادها اعتداءات وصفها بأنها إرهابيّة دون أدلة على ذلك، لتقرّر المحكمة أن قرار وزير الأمن إنما يمسّ بالحقوق الطبيعيّة، وحريّة التنقّل والحركة، وحريّة التعبير عن الرأي، وبالتالي يجب إلغاؤه، أي أن الحكومة الحاليّة تريد عمليًّا السيطرة على كافّة الأمور، واتّخاذ القرارات دون أن يكون لأي عنصر، أو هيئة كانت الحقّ في الاعتراض أو النقاش، ودون أن يكون هناك أيّ عنوان قضائيّ لمن يريد، سواء كان مؤسّسة أو جماعة، أو فردًا، الاستئناف على قرارات السلطات والحكومة والمؤسسات الرسميّة، ما يعني عمليًّا تحويل المواطن إلى رهينة لأهواء ورغبات الحاكم والسلطان حتى لو كانت تلك الأهواء والرغبات عشوائيّة وظالمة ومجحفة وتمييزيّة ، خاصّة بحقّ الأقليّات التي عادة ما يكون الجهاز القضائيّ الحامي لها في النظام الديمقراطيّ، وعادة ما يمنع أن تتحوّل الديمقراطيّة إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة.
"انقلاب دستوريّ"
هذه القناعة تقود مرّة أخرى إلى السؤال الذي يطرح بشكل متكرّر في المجتمع العربيّ، ومنذ بداية الاحتجاجات ضدّ ما يسمّى الانقلاب القضائيّ، حول مدى صحّة مشاركة العرب في الاحتجاجات ضد الانقلاب القضائيّ باعتبار النقاش حول الجهاز القضائيّ وتركيبته واستقلاله كما يدّعي قادة بعض الأحزاب والحركات السياسيّة العربيّة المعارضة للمشاركة في الدفاع عن الجهاز القضائيّ باعتبار أنه لم يكن أبدًا منصفًا للمواطنين العرب أو الفلسطينيّين، وأنه كان منفذًا لسياسات الحكومات المتعاقبة، وبالتالي فالنقاش حول استقلاليّة القضاء هو نقاش يهوديّ يهوديّ، ورغم هذا القول الذي فيه الكثير من الحقيقة، إلا أننا بصدد انقلاب دستوريّ بدأ بقانون القوميّة ومستمر في تغيير المعالم الأساسيّة في حقوق المواطن العربيّ، متناسين الحقيقة بأن الانقلاب هو دستوريّ يمسّ بمكانة العرب الأساسيّة في العيش في أرضهم، ولكنهم دائماً ضحيّة لصراع مراكز القوى، أو السلطات المختلفة. وعليه من المفروض أن يعي المواطن العربيّ بأن الحكومة الحاليّة تعمل على إلغاء دور المحكمة العليا في مراقبة أجهزة الحكم على اختلافها من الحكومة والبرلمان والجيش والأمن، وفي اعتقاد اليمين هذه المحكمة تضمن الحقوق للأقليّات وخاصّة للعرب لا سيّما أنه لا يوجد في النظام السياسيّ الإسرائيليّ ما ينصّ على المساواة بين العرب واليهود، وحتى ليس قانون " كرامة الإنسان وحريّته" الذي حاول كثيرون الادّعاء أنه يضمن المساواة التي تجاهلها قانون القوميّة.
أجل، على المواطنين العرب أن يعملوا على استقلاليّة المحكمة العليا خاصّة، والجهاز القضائيّ عامّة، ليكون الضمان الأوّل للفصل الصحيح بين السلطات باعتباره عنصرًا هامًّا في الأنظمة السياسيّة الديمقراطيّة الحديثة، يحكم العلاقة بين السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، والحيلولة دون إساءة استخدام السلطة، عبر سلسلة من الضوابط والتوازنات التي قرّرت الحكومة الحاليّة اعتبارها مشكلة وعقبة يجب تخطيها ليس بإصلاحات معيّنة منها تحسين الحال وتسريع وتنجيع العمل، بل بقلب نظام الحكم بواسطة محكمة العدل العليا سعيًا إلى حالة لا يمكن الاعتراض على قراراتها وقرارات وزرائها، وهو ما يناقض الديمقراطيّة التي على العربيّ الاهتمام لحمايتها لا سيّما أن الرقابة القضائيّة على قرارات الوزراء ليست جديدة، وأنها ليست كما يدّعون كذبًا وزورًا موجّهة ضد اليمين والشرقيّين، وبالتالي يجب إعادة العجلة إلى الوراء، أي كما قال وزير القضاء ياريف ليفين بأنّه يجب إعادتها إلى عهد القضاة شمعون إغرانات، الذي ترأس لجنة التحقيق الرسميّة في ملابسات حرب يوم الغفران أكتوبر 1973، والتي أشارت إلى قصورات خطيرة للحكومة المذكورة برئاسة غولدا مئير، ما يطرح السؤال حول حقيقة وصدق التوجّهات للوزير ليفين، فإذا كان اليوم يشنّ حربًا شعواء على محكمة العدل العليا وقضاتها الحاليين والسابقين، وقبل السابقين لمجرّد إعلانهم أنه يجب احترام القانون ومنع وزير أدين بمخالفة جنائيّة مع وصمة عار كالوزير أرييه درعي من العودة إلى منصب وزير الداخليّة وأيضًا بالتناوب الماليّة، أو احترام القانون عبر مساءلة رئيس الوزراء عن مخالفات ماليّة تعتقد السلطات والشرطة والنيابة العامّة أنه ارتكبها، وبالتالي يجب تقديمه للمحاكمة باعتبار القانون يسري على الجميع، فهل سيقبل ليفين بالعودة إلى عهد إغرانات الذي أشار إلى قصورات أنهت حياة سياسية لرئيسة وزراء، وأما لعهد القاضي موشيه لندوي الذي قرّر منع المخابرات الإسرائيليّة – الشاباك- من استخدام التعذيب والضغط الجسدي ّالمفرط وغير المحدود ضد فلسطينيّين اتهموا بمخالفات أمنيّة، أو أنهم موضع شبهة حيث أتاح أي القاضي ( لندوي) ممارسة الضغط الجسدي المعتدل فقط، في حين يريد وزراء الحكومة الحاليّة منح الجنود والمواطنين صلاحية إطلاق النار على الفلسطينيين وقتلهم إذا شعروا ما يُسمى بالخطر ومنحهم الحصانة من المحاكمة، أي أن يصبحوا القاضي والجلاد في نفس الوقت، وهل كان ليفين سيقبل العودة إلى الماضي الذي ألغى فيه قضاة محكمة العدل العليا قرار وزير الداخلية عام 1953 ومنعوه من وقف عمل صحيفتي "كول هعام"( صوت الشعب بالعربيّة، وهي الناطقة بالعبرية بلسان الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وهو نفس اسم صحيفة صوت الشعب جريدة الحزب الشيوعيّ السوريّ-اللبنانيّ 1937-1947) وصحيفة الإتحاد وهي الناطقة بالعربيّة بلسان الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وكالوا الانتقادات اللاذعة للحكومة(خمس سنوات فقط بعد قيام دولة إسرائيل)، وقرار الوزير الذي استند إلى أنهما نشرتا مقالا في آذار 1953 يهاجم بحدّة نيّة حكومة إسرائيل إرسال مئات آلاف الجنود لمساندة الولايات المتحدة في حربها ضد كوريا الشيوعيّة، ( كانت وزارة الداخليّة قبلها بشهرين قد أغلقت صحيفة كول هعام لعشرة أيام بعد نشرها نبأً عن مؤامرة لأطباء يهود ومنظمات يهوديّة روسيّة لتسميم قادة الاتحاد السوفييتي وردّت العليا التماس الصحيفة مؤكّدة صحّة القرار، لكنّها منعت دافيد بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الداخلية يسرائيل روكاح من تمديد فترة الإغلاق بعد خمسة أيام من انتهاء الفترة الأولى) وعلّلتا النشر بحجّة الحفاظ على سلامة الجمهور ، فتوجّهت الصحيفتان إلى محكمة العدل العليا بتشكيلة ثلاثة قضاة هم شمعون إغرانات المولود في الولايات المتحدة وموشيه لندوي ويوئيل زوسمان المولودين في ألمانيا، التي ردّت قرار الوزير يسرائيل روكاح، حجب الصحيفتين لعدّة أيام، حيث جاء في القرار، وكما قال القاضي إغرانات أنه يستند في قراره الى مضمون وثيقة الاستقلال واضعًا الأسس التي يجب اعتمادها للدفاع عن حرية الرأي وفرض الرقابة القضائيّة على قرارات الوزراء والحكومة، مؤكّدًا أن حريّة الرأي هي من أعلى الحقوق في القانون الدستوريّ الإسرائيليّ، وأنه إذا ما حصل صدام، أو تناقض بين حريّة التعبير وبين أيّ حريّة أخرى فإن حريّة التعبير تتراجع في حالة واحدة فقط، وهي حالة البيّنة الدامغة، أي فقط لمنع إلحاق ضرر كبير ومؤكّد بالمصلحة العامّة والجمهور، علمًا أن هذا القرار هو الأول من نوعه الذي تطرّق إلى العلاقة والحدود بين حرية الرأي والقضايا الأمنيّة. وهو القرار الذي أكّد عمليًّا أن إسرائيل حديثة العهد من المفروض أن تعتمد على الأسس الديمقراطيّة، ومنها أنه يحقّ للمحكمة العليا إلغاء قرار وزاريّ، أو حكوميّ إذا افتقد الأدلّة والعدل والفكر السليم، وهو ما يعني أن اتهامات اليمين والمستوطنين وأنصار الانقلاب القضائيّ الدستوريّ للقاضي أهارون باراك بأنه والد وعرّاب وراعي نهج" الدكتاتوريّة القضائيّة"، وبالتالي اعتباره عدوًا يجب محاكمته إنما هو خطوة تفتقر إلى أبسط مقوّمات المصداقيّة خاصّة وأن هذا القرار صدر قبل أكثر من أربعة عقود من تولّي باراك رئاسة محكمة العدل العليا عام 1995، وبالتالي فإن ادعاءات ليفين تشكّل استمرارًا في التضليل بأن محكمة العدل العليا لم تلغ قرارات لحكومات اليسار، واكتفت بإلغاء قوانين لحكومات اليمين، رغم أنها، أي المحكمة العليا، شرعنت الاستيطان المنفلت في عهدي اليمين واليسار، وأقرّت مصادرة أراضٍ فلسطينيّة وإقامة الجدار الفاصل وشكّلت الحصن الواقي أمام محاولات هيئات قضائيّة دوليّة محاكمة ضباط وجنود إسرائيليّين خاصة بعد تقرير غولدستون عام 2009.
لم أذكر قرار القاضي إغرانات المذكور عبثًا فما جاء فيه هو ما تحاول الحكومة الحاليّة فعله من انقلاب دستوريّ عبر إلغاء فصل السلطات، وتقويض أركان القضاء وإضعاف البرلمان، وهو أصلًا ضعيف لعدم وجود مجلسي برلمان كالشيوخ والنواب في أمريكا، ما يجعل البرلمان أداة يستخدمها الائتلاف والحكومة لفرض أجندته، وذلك عبر تشريعات تحت راية الانقلاب القضائيّ التي تجعل رئيس الوزراء الحاكم الأوحد، وتحويل نظام الحكم من ديمقراطيّ إلى أوتوقراطيّ، والديمقراطيّة إلى أوتوقراطيّة Autocracy وهي نظام حكم، تكون فيه السلطة السياسيّة بيد شخص. حين قال القاضي إغرانات إن مبدأ حريّة التعبير يشكّل استمرارًا وارتباطًا بمبدأ الديمقراطيّة، وفيه يحقّ، بل يجب مراقبة المنتخبين ومحاسبتهم ومعاقبتهم على أخطائهم، بعكس الاوتوقراطيّة، أي "حكم الرجل الواحد، الذي يعتبر الحاكم في المرتبة الأسمى يعرف كلّ شيء ويحقّ له اتّخاذ كلّ قرار يريده، فهو يعرف ما في صالح مواطنيه وما ليس في صالحهم – أكثر منهم أنفسهم- وبالتالي يُحظر انتقاده، أو أبداء أيّ مأخذ على سياساته علنًا"، حتى لو اتخذ قرارات وسن قوانين تمسّ بالمواطن وتحدّ من حريّاته خلافًا لمبادئ الديمقراطيّة الليبراليّة التي تنصّ على أنه يجب سنّ قوانين يكون من مصلحة المواطن الانصياع لها فهي لمصلحته، وتهدف الى تحسين جودة حياته وعليه يقبلها برضى وقبول، وليس كقوانين الحكومة الحالية المطروحة، أو التي سنّتها قمّة الانقلاب الدستوريّ حيث سنمنع من التظاهر، أو تجيز للمسؤولين تلقي الرشوة والتبرعات دون حساب وتعيين المقربين، دون رقيب وإضعاف الجهاز القضائي ما يفقد المواطن العاديّ إمكانيّة المطالبة بحقوقه والدفاع عنها مقابل الحاكم الأوحد وقوانينه الجائرة كقانون القوميّة الذي يعتبر إسرائيل بيتًا قوميًّا لكلّ يهود العالم أولًا ، دون أيّ تطرّق إلى المواطنين العرب ما يعني منح اليهود من دول خارج إسرائيل مكانة أفضل من مكانة مواطني الدولة ذاتها، وليس ذلك فقط بل منعهم من أيّ محاولة للدفاع عن حقوقهم، فإسرائيل دولة لليهود وهم ليسوا كذلك، كما أنه يجعل الحكومات القادمة في حلٍّ من أيّ تطرّق لقضايا المواطنين العرب، فهم لا يستحقّون المساواة وفق قانون أساس يعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية إن لم يكن أكثر.
" أوتوقراطية وحكم القائد ألأوحد والوحيد"
ما يريده نتنياهو وليفين هو أوتوقراطية وحكم القائد ألأوحد والوحيد، وهكذا ستتحوّل الدولة كما قال موشيه كوبل رئيس معهد كوهيليت الذي صاغ تشريعات الانقلاب القضائيّ، إلى دولة ذات أغلبية لليهود المتدينين بحكم تكاثرهم الطبيعيّ ( لم يندّد أحد بقوله هذا خلافًا لما كان عندما تمّ الحديث عن نسبة التزايد الطبيعيّ لدى العرب والفلسطينيّين) وبالتالي إلى دولة شريعة يهوديّة تعتبر العرب أغيارًا دون أدنى الحقوق، إن لم يكن اليوم فغدًا، أو بعد غد، أو بعد عقود. أما ما يريده المحتجّون ضد الانقلاب، وما يجب أن يريده العرب، وأن يحتجّوا لضمانه وتحقيقه فهو أن يبقى نظام الحكم الاسرائيليّ الحاليّ شبه الديمقراطيّ، والمطالبة بسنّ دستور يضمن جهاز قضائيّ مستقلّ وحقوق للمواطن العربيّ في بلاده وأرضه، وأكثر من ذلك أن تستمر المحكمة العليا على علّاتها وانتقاداتي لها ، وأن تتحوّل إلى سيّدة العدالة ، دليل وجود الرحمة في قلبها، وهي سيّدة معصوبة العينين تحكم بالمساواة بين الخصوم دون تمييز بينهم، تحمل السيف باليد اليمنى رادعًا للجاني ونذير اقتصاص منه، وترفع الميزان باليسرى لإعادة الأمور إلى نصابها، إذا ارتكب أحدهم خطأ أو جرمًا.
ما أشرت إليه سابقًا من تناقض بين التضليل وبين الحقيقة في أوساط مؤيّدي الانقلاب الدستوريّ يطول الحديث عنه، ويكفي الإشارة إلى ما قاله ياريف ليفين في لقاء تلفزيونيّ من أن إضعاف السلطة القضائيّة، يعني دون شك، منح السلطة التنفيذيّة قوّة غير محدودة، وبالتالي فإن المطلوب من العربيّ في إسرائيل أن يأخذ زمام الأمور، ويمارس حق التعبير والمشاركة في الاحتجاج ورفع صوته ضد الانقلاب الدستوريّ على جميع أشكاله، والمطالبة بتشريع دستور يحمي حقوق المواطن العربيّ من التقويض والانتزاع وفقًا لأهواء هذا التيار السياسيّ لهذه الفئة أو تلك من اليمين أو اليسار. وأن يكون مرفوع الرأس بأنه يريد الحريّة والمساواة، لأنه يعيش في أرضه وبلده، ولن يتخلّى عن وجوده السياسيّ والاقتصادي والعلميّ والفكريّ، وانتمائه إلى شعبه، ويعرف كيف يمارس الديمقراطيّة، وليس كما يصفوه بأنه المتزمّت والرجعيّ والمتقوقع وغير الرياديّ. أجل، علينا الحفاظ على استقلاليّة القضاء والدفاع عنه، وبعد إيصاله شاطئ الأمان إدخال الإصلاحات اللازمة وهي عديدة، وليس الوقوف جانبًا والقول إنه إذا كان القضاء لم ينصفني مرّة فليذهب إلى الجحيم، فهذا قول من لا يفهم النضال السياسيّ، وضرورة الدفاع عن الديمقراطية خاصّة من بين العرب فهي بشرورها أفضل من الأوتوقراطيّة وحكم الشريعة اليهوديّة والدكتاتوريّة، كما كشف حال مؤيّدي الانقلاب الدستوريّ، وانكشاف حقيقتهم مع كلّ لقاء صحفيّ، ومع استمرار الاحتجاجات والتي تضعهم في "خانة اليك" وتثير رعبهم وقلقهم وتؤكّد عجزهم وظاهرة القطيع بينهم، فيذكّرني بالقول الشهير للخليفة علي بن أبي طالب :" تكلّموا تُعرَفوا فإنّ المرء مخبوءٌ تحت لِسانِه".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il