logo

الخطأ الكيل بأكثر من صاعين

المحامي زكي كمال يكتب:
20-04-2023 06:11:09 اخر تحديث: 20-04-2023 06:26:19

رغم الهدوء النسبيّ الذي تشهده مجريات الانقلاب القضائيّ الدستوريّ في إسرائيل، بفعل عوامل موضوعيّة تتعلّق بوجود البرلمان الإسرائيليّ في إجازة "الربيع" ومفاوضات وساطة في


المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وصحيفة بانوراما

ديوان رئيس الدولة وغيرها من العوامل الاقتصاديّة والدبلوماسيّة الدوليّة، ومنها تقارير شركة موديس للتصنيف الائتمانيّ للدول التي حذَّرت من احتمال تخفيض التصنيف لإسرائيل بفعل المسّ بالجهاز القضائيّ. وليس عن طيب خاطر، فالائتلاف الحكوميّ الحاليّ كان يمنّي النفس بأن تكون التشريعات قد انتهت، وأن تكون كافّة آماله قد تحقّقت بما فيها القوانين التي تجعل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزراءه فوق المساءلة والمحاسبة، وتجعل نقاء اليدين توصية غير ملزمة في أفضل الأحوال، إلا أن الوقت ما زال مبكرًا للاستنتاجات والنتائج والعبر، سواء كانت تتعلّق بدور الحركات الاحتجاجيّة والنشاطات التي نفّذتها صناعات التقنيات العالية، ودور قدامى الجيش عامة واحتياطيين من سلاح الجوّ خاصّة، أو بدور الشركاء في الائتلاف الحكوميّ وعنجهيّته وشعوره ،الذي سرعان ما اتّضح خطأُه ،بأنه قادر على كلّ شيء، وبأن التشريعات ستمر دون معارضة بفعل نتائج الانتخابات الأخيرة وفوز اليمين فيها. وهذه الأمور سابقة الذكر تحظى كلّها بغالبية الاهتمام الشعبيّ والإعلاميّ والجماهيريّ المحليّ والعالميّ. وهي ما أشغل الجميع منذ بداية الاحتجاجات قبل أربعة أشهر، وكلّها قضايا تستحق البحث والتحليل، لكنها كلّها عوامل تخفي وراءها قضايا هامّة يجدر بحثها، وربما التعلّم منها ومحاكاتها، أو تقليدها في العالم العربيّ عامّة بما فيه المجتمع العربيّ داخل إسرائيل خاصّة، وأهمها ما يتعلّق بدور مؤسسات القطاع الثالث، أو المنظمات غير الحكوميّة في دراسة الأوضاع وتحليلها ووضع السياسات واقتراح خطط العمل والتأثير على السياسيين وصنَّاع القرار وسط عمل منهجيّ ومدروس لا ينتظر غدًا نتائج عمل اليوم، بل يعتمد التخطيط طويل المدى ولسنوات قادمة، ويعمل عبر تمويل صحيح وكافٍ وشبكة علاقات واضحة وفاعلة مع صنّاع القرار من أصغرهم حتى أكبرهم، وخلق الظروف الملائمة للعمل، أو ربما انتظار الظرف الملائم لتنفيذ المخططات والمقترحات التي تم إعدادها وتحضيرها، وفي مقدّمة هذه المؤسّسات مراكز الأبحاث والدراسات، وذلك على ضوء ما تكشَّف حتى اليوم من دور فاعل وكبير بل وحاسم لمعهد "كوهيليت" للدراسات، والذي اتّضح بما لا يقبل الشك أو التأويل أنه الروح الحية التي تقف خلف مقترحات الانقلاب القضائيّ الدستوريّ عبر مقترحات تم وضعها منذ سنوات طويلة بانتظار التوقيت المناسب لتنفيذها.

ما تم كشفه عن معهد كوهيليت خاصّة في نهاية 2022 وما مضى من العام الحاليّ 2023، وهو المعهد الذي أسّسه اليهوديّ الأمريكيّ موشيه كوبل منذ العام 2012 يستدعي العديد من الأسئلة، ويطرح الكثير من القضايا، جلّها تتعلّق بمجملها بقضية الدراسات والتحليل والبحث ذات العلاقة بالخطط الحكوميّة في مختلف مجالات الحياة. ويطرح أسئلة كثيرة حول دور مؤسّسات المجتمع المدنيّ، أو المنظمات غير الحكوميّة الموجودة بأعداد كبيرة في المجتمع العربيّ في إسرائيل، وسبب عدم وجود مؤسّسات ومعاهد بحثيّة مماثلة في المجتمع العربيّ في إسرائيل، بل قبل ذلك هل هناك احتمال لوجود مثل هذه المعاهد أصلًا خاصّة على ضوء حاجتها إلى التمويل، وهو دون شك سيكون خارجيًّا بامتياز وتحديدًا أمريكيًا وأوروبيًّا على وجه التحديد، وذلك من منطلق إدراكنا الحقيقة المؤلمة أن المجتمع العربيّ برجال أعماله وأصحاب رؤوس الأموال فيه، هو مجتمع يمتنع عن التبرّع لمؤسّسات بحثيّة وأكاديميّة، وهذا ما تؤكّده تجربتي الخاصّة وتجربتنا في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا، أي أنه يمتنع عن التبرع لقضايا تندرج ضمن تلك التي تؤتي ثمارها بعد حين، ولا تكون نتائجها فوريّة، ويميل إلى تبرّعات لها وقعها الآنيّ وبريقها الإعلاميّ والجماهيريّ، بغض النظر عن الفائدة المجتمعيّة الجماعية المرجوة منها، كما انه يثر الأسئلة أصلًا حول مدى فهم معاهد او مراكز الأبحاث في المجتمع العربيّ على قلتها وربما قلّة ميزانيّتها، أو نجاعة استخدامها، لدورها الأساسيّ، وهو البحث والاستقصاء والتحليل، ومن ثمّ وضع الخطط والبدائل وطرح برامج العمل دون الاكتفاء بتحليل ما هو موجود كما يحدث اليوم من حيث نشاط المؤسّسات المهتمّة بالمساواة وحقوق الإنسان في المجتمع العربيّ، والتي يكتفي معظمها بتحليل المعطيات وشرحها والتحذير منها وتوجيه اللائمة، وبحقّ تام للسلطات والحكومات المتعاقبة والوزارات دون وضع خطط عمليّة مدروسة تقدّم للمؤسّسات، أو تنتظر الظروف السياسيّة المواتية لتنفيذها كما حصل من حيث مشاركة القائمة العربيّة الموحّدة في ائتلاف حكومة التغيير، حكومة نفتالي بينيت ويائير لبيد والتي لم يطُل عمرها، ربما بسبب ما فعلته أيدينا وأقصد هنا مواقف بعض النواب العرب الذين صوتوا إلى جانب الليكود واليمين والمتديّنين المتزمّتين ممّا أسفر عن إسقاطها والتوجّه إلى انتخابات جديدة كانت نتائجها أسوأ بكثير وبمثابة "المستجير من الرمضاء بالنار" ، ناهيك عن الأسئلة حول مدى استعداد الباحثين من المواطنين العرب داخل إسرائيل على ممارسة الأبحاث لسنوات طويلة. وهو سؤال ينقلنا إلى دور الباحثين العرب في معاهد الأبحاث الإسرائيليّة الموجودة داخل الجامعات الإسرائيليّة، وهي معاهد وإن كان لها دور ومساهمة إلا أنها لا تختلف في عملها عن تلك في المجتمع العربيّ من حيث الاكتفاء بدراسة ما هو قائم دون القدرة على رسم السياسات ، غير أنها تبقى في معظم الأحيان جزءًا من المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة، وبالتالي جزءًا من المؤسّسة. أما السؤال الأهمّ فهو مدى استعداد المعاهد البحثيّة ومؤسّسات المجتمع المدنيّ في المجتمع العربيّ، لمحاولة التأثير على صنّاع القرار وواضعي السياسات، أو ربما إيمان مسؤولي هذه المعاهد والمؤسّسات بقدرتهم تنظيميًّا وبالأساس مهنيًا على التأثير على صنّاع القرار، بل ربما رغبتهم أصلًا بذلك، وعدم الاكتفاء بتقارير تحلّل ما هو قائم، منها ما يفسّر الماء بالماء وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، وباختصار مؤلم ربما هل تدرك هذه المؤسّسات دورها الحقيقيّ، وهل يمكن لهذه المراكز وبفعل التمويل الأوروبيّ، أو الحزبيّ الذي يفرض ، علنًا أو سرًا، ماهية الأجندات التي قد تطبقها هذه المؤسّسات، أن لا يؤدي إلى غياب الديمقراطيّة البحثيّة والمعلوماتيّة عنها، وهو ما يعيق عمل بعض مراكز الأبحاث ويمنعها من تقديم أبحاث موضوعيّة.

" محاولة لإخضاع الجهاز القضائيّ"
نموذج معهد أو منتدى كوهيليت للسياسات، وبغض النظر عن مضمون دوره في الانقلاب القضائيّ – الدستوريّ الذي أرفضه رفضًا تامًّا، واعتبره محاولة لإخضاع الجهاز القضائيّ، وليس لإشفاء أو لإصلاح الجهاز القضائيّ، هو نموذج تجدر دراسته، فهو مركز أدرك مؤسّسوه وناشطوه أولًا وداعموه وممولوه بعدهم، أنه من المحظور بل من غير المفيد وغير المجدي أن يركَّز على السياسات، أي على الاكتفاء بتحليل سياسات الحكومات والوزارات وتقديم المعطيات حولها للجمهور من باب الشرح والكشف والوقوف عند هذا الحدّ، أو القبول بأن ينتهي دوره عند هذا الحدّ، كحال مؤسسات المجتمع المدنيّ في المجتمع العربيّ بمعظمها، والتي تكتفي بالتحليل وبعضها بإنتاج المعرفة في أحسن الأحوال، بل إن عليها أن تعمل أيضًا على رفع الوعي العام حول القضايا التي تعالجها وبعدها استغلال تلك المعطيات لإنتاج المقترحات والأفكار، وإنتاج الفكر والبرامج البديلة، أو المقابلة والموازية ، وتحضيرها مدعّمة بالمعطيات والأرقام، وإتاحتها أمام الحكومات والوزارات. وهو ما لا يحدث في المجتمع العربيّ الذي يتم في معظم أبحاثه رصد لحالات وسياسات فقط. فهذا المركز الذي أقيم كما ذكرنا عام 2012، عمل بصمت مطبق وهدوء فعَّال على مدار العقد الذي تلا تأسيسه، وبمشاركة أكثر من 120 باحثًا يعملون في مقرّه الرئيس الكائن في حي "جفعات شاؤول" بالقدس ، على وضع سياسات وخطط عمل ومقترحات تم تقديمها إلى النواب والوزراء مرّة تلو الأخرى، سواء كان ذلك عبر دعوتهم إلى مكاتب المعهد، أو زيارتهم في مقرّاتهم في البرلمان أو غيره. ومن هنا يبدو أن اختيار الموقع الجغرافيّ للمعهد لم يكن عبثًا فهو قريب جغرافيًّا من الكنيست والمحكمة العليا معًا. وهي مؤسّسات صُنْع القرار التي أراد المنتدى التأثير عليها وتغيير سياساتها وإقناع أعضائها ببرنامجه الجديد، وبالتالي تغيير موازين القوى بينها لخدمة معتقداته، وهي واضحة وغير مخفية حيث جاء في استعراض أهدافه أنه يسعى إلى دعم وتعزيز وضمان كون إسرائيل دولة قوميّة للشعب اليهوديّ، وتعزيز الديمقراطيّة التمثيليّة، وتوسيع الحرية الفرديّة ومبادئ السوق الحرّة في إسرائيل، ولم يكن الأمر مجرّد شعارات رفعها كوهيليت، إذ إن المنتدى الذي عمل بوصفه مركز أبحاث استطاع بالفعل تحقيق الإنجاز تلو الآخر في التغلغل داخل أروقة السياسة والقضاء، ونشر أفكار اليمين المتطرّف قضائيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، ليتضح اليوم مدى تأثيراته الواضحة على الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، فهو من بادر وصاغ وسوَّق ومرَّر قانون القوميّة عام 2018 الذي عرَّف إسرائيل على أنها دولة قوميّة للشعب اليهوديّ، وليست يهوديّة وديمقراطيّة، وبالطبع ليست ديمقراطيّة ودولة جميع مواطنيها، وألغى مكانة اللغة العربيّة، وشرعن إقامة بلدات خاصّة لليهود على أراضي الدولة دون أيّ اعتبار مماثل للمواطنين العرب الذين لم يضمن لهم المساواة حتى.

من هنا تنبع أهميّة ودور العمل الدؤوب والمدروس وعلى مدى سنوات طويلة حتى لو بلغت عشر سنوات، كما في حالة مركز كوهيليت الحاليّة، أو أهميّة وضع الأهداف بعيدة المدى والسعي إليها بكلّ الوسائل والطرق وتحضير وتجهيز الخطط والبرامج لاستخدامها ساعة الحاجة، أو حين تتيح الظروف ذلك، مع تهيئة الأجواء والمواقف وحشد التأييد لها من قبل، عبر شبكة علاقات واسعة واتصالات حثيثة وطرق الأبواب مرّة تلو المرّة ودعم النواب المؤيّدين وتجنيد الدعم والتضامن الإعلاميّ. وهي أمور تكاد تنعدم في العالم العربيّ عامّة بسبب انعدام الاستقرار في أنظمة الحكم وانعدام المناخ الديمقراطيّ من قبل السلطة من جهة، ومن قبل المموّلين من جهة أخرى، وإلى ذلك تضاف قضية شبكة العلاقات والاتصالات والمصادر. وهي سؤال آخر يطرحه وبحده دور مركز "كوهيليت" ، فهو لم يكتف بشبكة علاقاته داخل إسرائيل، بل أدرك وبحقّ أن السياسة الداخليّة الإسرائيليّة هي نفسها السياسة الخارجيّة، وأن للولايات المتحدة ما تقوله في هذا أيضًا، وبالتالي عمل على إقامة شبكة علاقات في العالم كلّه، وتحديدًا في الولايات المتحدة حيث أقنع أصحاب مواقع التأثير في واشنطن بأن قانون القوميّة ليس عنصريًّا ولا يميِّز ضدّ المواطنين العرب، كما عمل المنتدى على تزويد مايك بومبيو، وزير خارجيّة الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب، بالحجج القانونيّة التي استند إليها في إعلان الولايات المتحدة حينئذ أن المستوطنات الإسرائيليّة في الضفة الغربية المحتلة ليست انتهاكًا للقانون الدوليّ، كما دعم المركز أيضًا التشريعات الأميركيّة ضد حملات مقاطعة المنتجات الإسرائيليّة التي يتم تصنيعها في المستوطنات الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة ، وموَّل أبحاثًا تؤكد أن المستوطنات شرعيّة، وهو ما يذكرنا بأن التمويل كثيرًا ما يؤثّر على نتائج الأبحاث وأوراق -كما حدث في أبحاث أكاديميّة موّلتها شركات التبغ في الولايات المتحدة كانت نتائجها أن التدخين لا يؤدي بالضرورة إلى الإصابة بالسرطان وأبحاث لشركات أخرى صناعيّة، وأبحاث اعتمدها رؤساء دول لرفض قضية الاحتباس الحراريّ وغيره، حتى وصول الأمر إلى ما نحن عليه اليوم من محاولة لتغيير النظام الدستوريّ والسلطة في إسرائيل، وجعلها دولة يحكمها رجل واحد تشكّل التوراة أساس تشريعاتها، ويشكّل أتباع الأحزاب المتديّنة واليمينيّة المتطرّفة، رأس الحربة لتنفيذ أجنداتها، ويلهثون للحصول على تمويل منه علمًا أن ميزانيّة المركز جاءت بمعظمها على شكل تبرعات أميركيّة يحتلّ المرتبة الأولى فيها الملياردير الجمهوري "جيفري ياس"، وهو من أوائل الأثرياء في العالم بثروة تقترب من 30 مليار دولار، ومن العشرة الأوائل في قائمة المانحين للمرشحين الجمهوريّين للرئاسة عام2020 ، 2020وهوأكبر متبرّع لكوهيليت في عام 2020 بمبلغ قدره 22 مليون دولار، ومعه مموِّل آخر هو آرثور دانتشيك، وثروته تبلغ 7.5 مليارات دولار. ويتبرّع خاصّةً لصالح جماعات اليمين الأميركيّ، ويُموِّل الآن لجنة عمل سياسيّ جديدة تستهدف تقويض فُرَص المرشحين التقدمّيين خاصّة من الديمقراطيّين، أو حتى الجمهوريين الذين ينتقدون مواقف إسرائيل.

لم يكن كوهيليت أول معهد للأبحاث في إسرائيل يحمل أجندة سياسيّة، فقد سبقته في ذلك معاهد عديدة منها يساريّة، أو تنتمي إلى تيار المركز منها معهد " أدفا" ومعهد "مولاد" ومعهد "أورشليم" ومعهد "طاوب" والمعهد الإسرائيليّ للديمقراطيّة، ومؤسّسات تُعنى وتهتم بحقوق الإنسان والمواطنين اليهود والعرب على حدّ سواء، ومنها جمعيّة حقوق المواطن، لكنّ مركز كوهيليت فاق الجميع من حيث نشاطه الذي تم دون تغطية إعلاميّة طيلة سنوات وعمله الدؤوب وخططه الجاهزة للانقضاض على الجهاز القضائيّ، فهي خطط وبرامج لم ولا يتم وضعها خلال أشهر، كما يحلو للعاملين فيه أن يدَّعوا، ناهيك عن مدى القبول المطلق الذي تلقاه أفكار هذا المعهد داخل الحكومة الحالية، بل إنه أصبح الآمر الناهي، يحدّد السياسات والتعليلات محاولًا إقناع المعارضين أنه يريد زيادة التعدديّة في جهاز القضاء، وتمكين فئات يقول إنها أُقصيَت من سلك القضاء، كاليهود الشرقيّين والمتديّنين وضمان استقلاليّة السلطة التنفيذيّة، محاولًا إخفاء الهدف الحقيقيّ لبرامجه ومخططاته وهو إضعاف المحكمة العليا الإسرائيليّة، وتقويض الرقابة القضائيّة على الحكومة بحُجة أن القضاء جهة غير منتخبة، ومن ثمَّ توسيع سيطرة الحكومة والكنيست على التعيينات القضائيّة، والحدّ من قدرة المحكمة على إلغاء التشريعات، مقابل السماح لأغلبيّة بسيطة من أعضاء الكنيست بإلغاء قرارات المحكمة العليا، وهي محاولات تسويقيّة أصلها من الاقتصاد، ورد ذكرها بتوسع في كتاب" صفقة المخدوعين ــ المغبونين" للباحثين الاقتصاديين الأميركيين، جورج أكيرلوف، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2011 والأستاذ في جامعة بيركلي( وزوج وزيرة الخزانة جانيت يالين) ، وروبرت شيلر، الحائز أيضًا جائزة نوبل للاقتصاد عام 2013 وأستاذ الاقتصاد والتمويل في جامعة ييل، ويناقشان فيه المسائل المتعلّقة بما يُسِّمى اقتصاد التلاعب وخيبة الأمل، وهو ما اتّبعه معهد كوهيليت، في السياسة هذه المرّة، ليقنع مؤيّدي الإصلاحات القضائيّة بأن الهدف منها هو التحسين والمساواة والدمج، أي أنها تصبّ في مصلحتهم بكلّ مكوّناتها، وأنها ستعزّز من استقلاليّة ونزاهة وقدرات الجهاز القضائيّ وستضمن المساواة والحريّة العامّة، وليس لأهداف شخصيّة، ليتّضح لاحقًا العكس وأن الهدف منها هو السيطرة وحرف الدولة عن مسارها الديمقراطيّ، رغم أنه غير مثالي اليوم، علمًا أن المركز اتّبع سياسة التضليل التي ورد ذكرها في الكتاب كوسيلة لإقناع الناس بأن خططه إنما تهدف لتحقيق الأحسن، ما يعني أن عدم النزاهة والتلاعب لم تعد ممارسات محصورة في المجال الاقتصاديّ وخاصّة التسويقيّ، ولكنها أصبحت في صميم السياسة الاسرائيليّة اليوم، وذلك في إطار المنافسة التي شهدتها إسرائيل عبر خمس معارك انتخابيّة خلال أقل من 3سنوات حاولت خلالها الأحزاب كلّها دون استثناء، وبشكل خاصّ الليكود واليمين ونتنياهو استغلال أيّ فرصة لزيادة الكسب الانتخابيّ.

"صفقة المخدوعين"
قضية التضليل حول الأهداف الحقيقية لمراكز الأبحاث عادة ما تكون متعلّقة بالتمويل، وهو ما اتّضح جليًّا في الشرق الأوسط عبر مراكز أبحاث يرأسها أكاديميّون نسبوا لأنفسهم صفات ليست لهم، ونصّبوا أنفسهم قيّمين على التفكير الديمقراطيّ وحريّة الشعوب، تموّلها دول عربيّة وتحديدًا خليجيّة وفي مقدّمتها قطر، روَّجت لفكرة الديمقراطيّة عبر الربيع العربيّ دون تحضير مسبق ودون رفع الوعي الجماهيريّ لحقوق المواطن وزيادة مدى فهمه لمتطلّبات الديمقراطيّة منه كمواطن يدرك ما له وما عليه، ويدرك أن له دورًا في عجلة الصناعة والإنتاج، وأن عليه الاختيار بحريّة وعقلانيّة، دون انجراف وراء تيار فئويّ، أو دينيّ بشكل أعمى، بل غرائزيّ أحيانًا، والأنكى من ذلك أن هذه الدول التي موَّلت مراكز أبحاث دعت إلى الديمقراطيّة والتحرّر في مصر وسوريا وغيرها من الدول العربيّة، استعانت في "صفقة المخدوعين" بوسائل إعلام تموّلها هي أيضًا خدمةً لأجنداتها التي أسفرت في نهاية المطاف عن "تسونامي عربيّ" أحرق الأخضر واليابس، وهدم الدول العربية كمصر وسوريا وليبيا وتونس وأعادها عقودًا إلى الوراء وحوَلَّها من دول تفتقر للديمقراطيّة إلى دول تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة كالخبز والماء، بل إلى دول يعتمد اقتصادها وحياة مواطنيها على تبرّعات من دول خليجيّة منها تلك الدولة التي موَّلت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، وهذه الطامّة الكبرى، والتي تستوجب وقفة واعية وصادقة مع النفس، سواء كانت سياسات التضليل هذه تتعلّق بالعالم العربيّ، أو بالمجتمع العربيّ هنا، منعًا لحالات تتكرّر، تشكّل هذه المعاهد منفذًا لتنفيذ أجنّدات خارجيّة وغريبة ومرتعًا توظيفيًّا ومصدرًا للاغتناء لمديريها وباحثيها، الذين يفضّلون في بلادنا هنا ربما الانشغال بتحليل السياسات والمعطيات بشكل جاف، وإصدار تقارير موسميّة وسنويّة تشمل استنتاجاتهم التي تستند إلى نظرة إلى الخلف، ولو كانت تحليليّة، بدلًا من رسم السياسات ومحاولة إقناع صناع القرار وأصحاب التأثير بها، فذلك يستوجب العمل المدروس والنفس الطويل، وانتظار النتائج كما أنه يحمل في طيّاته إمكانيّة، ولو بسيطة لمواجهة مع السلطات، أو بعض المسؤولين وربما يثير حنقهم، فغاية التغيير تحتاج إلى براعة التخطيط ودراسة المعطيات ووضع السياسات وممارسة نشاطات اللوبي، وفوق كلّ ذلك حسن التدبير وأساسه الإيمان التامّ بصدق التوجّهات، وقبلها وبعدها القدرة على إحداث التغيير وعدم الخوف من المواجهة، أو بصراحة، مدى رغبة هؤلاء في إحداث التغيير على أرض الواقع خدمة للجميع، وليس فقط طرح شعارات التغيير لمصلحة حزبيّة، أو شخصيّة ضيّقة، فالتغيير يتطلب ليس فقط محاربة القديم فهذه شجاعة صغيرة لا مخاطرة فيها ولا عناء ، بل يتطلّب الفكر الحر والقدرة على التفكير المبدع والنظرة الثاقبة والجرأة على طرح الجديد من الفكر، فهذا يتطلّب الشجاعة الفكريّة والإنسانيّة عملًا بقول الحكيم سقراط: "السرّ في عمل التغيير هو أن تركِّز طاقاتك ليس في محاربة القديم، بل في بناء شيء جديد"، وهي شجاعة نفتقدها للأسف، أو قلما نجدها في شرقنا عامّة ومجتمعنا العربيّ خاصّة هنا، وكم بالحري بأن الدول والأفراد تكيل بأكثر من صاعين.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il