المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
وهي الجهاز التنفيذيّ على السلطتين التنفيذيّة والقضائيّة، وبين ائتلاف حكوميّ يسابق الزمن في تشريعات تهدف إلى شرعنة أمور كانت ضمن المحرَّمات قانونيًّا على الأقل، ومنها تعيين وزراء رغم ماضيهم الجنائيّ، والسماح لرئيس حكومة يخضع لمحاكمة جنائيّة بتعيين قضاته، والحصول على تبرّعات ماليّة غير محدودة لتمويل نفقات محاكمته، وجدت إسرائيل نفسها في الأسبوع الأخير، وسط حالة اختلطت بها الأمور بفعل " مظاهرات عفويّة غاضبة" بادر إليها مؤيّدو الحكومة، وخاصّة من اليمين المتديّن الصهيونيّ المتزمّت، وحركات سياسيّة طالب وزراء سابقون بعضهم متديّن باعتبارها منظمات إرهابيّة خطيرة. كانت أوّلها متزامنة بالضبط، وفي توقيت مُريب، مع إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تعليق الخطوات التشريعيّة المتسارعة والشروع بحوار مع المعارضة، وهو إعلان لم تكن نتائجه كما تمنى نتنياهو أي أنها لم تؤدّ إلى وقف الاحتجاجات، بل ربما كانت نتيجتها معاكسة كما أظهرت احتجاجات الأسبوع الأخير. وهي الحالة التي تحتلّ العناوين وتشغل السياسيين والإعلام ونشطاء الأحزاب والحركات المؤيّدة والمعارضة للتشريعات خاصّة وأن تعليق التشريعات سينتهي عمّا قريب ما يثير المخاوف من جديد من صدامات خطيرة بين المعسكرين قد تصل حدّ الحرب الأهليّة، تُضاف إلى ذلك تطوّرات اقتصاديّة وسياسيّة دوليّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يحدث داخل إسرائيل، في تأكيد إضافيّ ومتجدّد لمقولة وزير الخارجيّة الأمريكيّ الأسبق، هنري كيسنجر، في أواسط سبعينيّات القرن الماضي، بأن إسرائيل هي دولة دون سياسة خارجيّة، بل إنها دولة لها سياسة داخليّة فقط، لها انعكاسات تعتبرها حكومات إسرائيل المتعاقبة على أنها سياسة خارجيّة.
هذا ما أكّدته تطوّرات الأحداث في الأسابيع الأخيرة على الصعيدين الإقليميّ والعالميّ، وفي مقدّمتها ربما من حيث الأهميّة وفق مقياس السياسة الإسرائيليّة والعلاقات الخارجيّة للدولة، ما حدث مع الرئيس الأميركيّ جو بايدن الذي لم يخف منذ اللحظة الأولى تحفّظه الشديد، بل معارضته للتشريعات القضائيّة المتسارعة والخطيرة التي ستكون نتيجتها، وفق التعبير الدبلوماسيّ الأميركيّ، المسّ بالقواسم والقيم المشتركة الديمقراطيّة المشتركة بين واشنطن وإسرائيل والتي كانت الأساس الذي تبنى عليه العلاقات المتبادلة بين البلدين والتحالف الاستراتيجيّ غير القابل للكسر بينهما، وبكلمات أخرى أوضح، المسّ بالديمقراطيّة وفصل السلطات في إسرائيل، والمسّ بالجهاز القضائيّ وإبعاد إسرائيل عن مصاف الدول الديمقراطيّة وجعلها قريبة من هنغاريا وبولندا وتركيا وغيرها من الدول التي تحوّلت ديمقراطيتها النسبيّة إلى دكتاتوريّة وحكم مطلق لرجل واحد، والتي بلغت ذروة جديدة وربما غير مسبوقة الأسبوع الأخير عبر تصريح قال فيه بايدن إن إسرائيل لا يمكنها أن تواصل السير في هذا الطريق، وأن على نتنياهو التوصّل إلى تسوية حقيقيّة لهذه القضية عبر التخلّي عن مشروع التعديلات القضائيّة، والمفهوم هو الانقلاب الدستوريّ الذي يعمل به نتنياهو، وإيجاد حل للوضع الصعب الذي تعيشه الدولة، مؤكّدًا في ردّ على سؤال حول ما إذا كان سيدعو نتنياهو إلى البيت الأبيض، أنه لن يفعل ذلك في المدى القريب، وما زاد تصريح بايدن حدّة أنه جاء بعد أيام من تصريحات السفير الأميركيّ لدى إسرائيل توم نايدس عن تفاؤله باحتمال دعوة نتنياهو لزيارة البيت الأبيض قريبًا بعد دخوله في محادثات تسوية حول التعديلات القضائيّة.
تصريحات بايدن هذه، حول زيارة زعيم ما إلى واشنطن ولقائه من عدمه، أمكن اعتبارها، بل يجب اعتبارها جزءًا من العلاقات الخارجيّة أو السياسة الخارجيّة للدولة، خاصّة وأنها ليست الأولى له في هذا السياق، وهو الذي كان قد أعلن أنه لن يدعو ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان لزيارة واشنطن بسبب دوره – كما يقول بايدن - في اغتيال الصحفيّ السعوديّ جمال خاشقجي، وهو الذي كان قد أعلن مع بداية الحرب الأوكرانيّة أن فلاديمير بوتين هو مجرم وقاتل، وبالتالي أصبحت زيارته لواشنطن أو زيارته في موسكو غير قابلة للحدوث، وغيرها وغيرها، وهو ما أمكن أن يكون في حالة نتنياهو وإسرائيل، لو كانت هذه الحالة جزءًا من السياسة الخارجيّة الإسرائيليّة، لكنّها ليست كذلك خاصّة اليوم، بل إنها جزء من السياسة الداخليّة الإسرائيليّة. وهو ما لم نكن بحاجة إلى الانتظار طويلًا حتى نتيقن منه، عبر قيام جوقة من مؤيّدي نتنياهو والتشريعات القضائيّة ووزراء حكومته بمهاجمة الإدارة الأميركيّة الحاليّة عامّة ورئيسها بايدن خاصّة، واتهامه بالتحيُّز إلى اليسار الإسرائيليّ ومعارضي نتنياهو، والإشارة إلى أن واشنطن تحت إدارات ديمقراطيّة حاولت مرّتين الإطاحة بنتنياهو(خلال عهد باراك أوباما، وهذه المرة في عهد بايدن)، إضافة إلى دعوته إلى الانشغال بأموره الداخليّة وأمور أميركا وعدم التدخّل في شؤون إسرائيل الداخليّة، بل الإشارة إلى أن أميركا تحت الإدارات الديمقراطيّة كانت السبب في مقتل جنود إسرائيليّين، والإشارة إلى أن إسرائيل ليست بحاجة إلى الدعم الأميركيّ لحماية نفسها متناسين الدعم العسكريّ السنويّ بمليارات الدولارات، واستخدام حقّ النقض الفيتو بشكل تلقائيّ ضدّ أيّ قرار لمجلس الأمن ضدّ إسرائيل يكون ملزمًا، بعكس قرارات الهيئة العامّة للأمم المتّحدة التي تعتبر تصريحيّة فقط وغير ملزمة واتفاقيّات التعاون والدفاع المشتركة وغيرها. وإذا كان هذا لا يكفي لتأكيد كون قضية دعوة نتنياهو إلى واشنطن أو عدمها، قضية داخليّة إسرائيليّة يتم تسويقها على أنها سياسة خارجيّة، جاءت تصريحات السياسيّين الأميركيّين الجمهوريّين، وفي مقدّمتهم السناتور الأميركيّ الجمهوريّ تيد كروز الذي قال إن بايدن يستقبل راديكاليين معادين لأميركا، لكنّه يبتعد عن نتنياهو، والمرشحة للرئاسة الأميركيّة القادمة نيكي هيلي التي هاجمت رئيس بلدها متّهمة إياه بالتدخل في شؤون إسرائيل الداخليّة" واصفة ملاحظاته حول التشريعات القضائيّة بأنها " إسداء الموعظة لإسرائيل في أمر داخليّ ليس قبل أن تضيف أن أميركا لم تكن لتقبل بتدخّل إسرائيل في شؤونها الداخليّة، متناسية تدخلات نتنياهو المتكرّرة، وقمّتها خطابه ضدّ الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام مجلسي الشيوخ والنواب ، ومهاجمة سياسته تجاه النوويّ الإيرانيّ، وتدخّله إبان انتخابات عام 2016 وانتهت بفوز دونالد ترامب.
لم ينته الأمر عند هذا الحدّ، بل جاءت تصريحات معارضي نتنياهو ومعارضي التشريعات القضائيّة، أو الانقلاب القضائيّ، لتؤكّد أن رفض الإدارة الأميركيّة الحاليّة استقبال نتنياهو في واشنطن هو ليس جزءًا من السياسة الخارجيّة الإسرائيليّة، بل إنه داخليّ بامتياز، وبالتالي جاءت التصريحات تهاجم نتنياهو وتتهمه بأن رغبته الجامحة في التهرّب من سطوة القضاء، ونتائج المحاكمة الجنائيّة عبر السيطرة على جهاز القضاء، وتعيين القضاة على هواه، هي السبب في تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركيّة وأن تشريعاته الشخصانيّة وغير المبرّرة تمسّ بالعلاقات الخارجيّة الإسرائيليّة وتؤدّي إلى إبعاد الدول الصديقة عن إسرائيل، وتجعلها في مصاف الدول المنبوذة التي يتمّ إغلاق قصور الزعماء والقادة في وجوه وزرائها ومسؤوليها، بل تتم مقاطعتهم ويرفض مسؤولو الدولة المضيفة استقبالهم، كما حدث مع الوزير بتسلئيل سموتريتش خلال زيارته للولايات المتحدة، مضيفين أن سبب مواقف أميركا يتعلّق أيضًا بموقف نتنياهو من وزير أمنه يوآف غالنت الذي قرّر نتنياهو إقالته بسبب تحذيراته من مغبّة التشريعات القضائيّة الخطيرة، وأبعادها على الجوانب الأمنيّة خاصّة على ضوء التطوّرات والتوتّرات الأمنيّة على الجبهات الشماليّة والجنوبيّة، وفي الضفة الغربية وإيران والتحذيرات من أن متطوّعين في سلاح الجوّ ممّن أنهوا خدمتهم الاحتياطيّة، سيمتنعون عن مواصلة تطوّعهم وبالتالي سيمسّ ذلك بجاهزيّة سلاح الجوّ وإمكانيّات قيامه بمهامّه ومنها ربما عمليّة عسكريّة ضدّ منشآت نوويّة إيرانيّة، خاصّة وأنّ غالنت يعتبر واحدًا ممّن يطالبون بوقف التشريعات والحوار مع المحتجّين، علمًا أن نتنياهو ما زال يرفض إبلاغ غالنت بقرار إلغاء إقالته حتى اليوم، ما يعني أنه وزير أمن مع وقف التنفيذ، وأن واشنطن تثق بقدرات غالنت القياديّة والعسكريّة والشخصيّة، علمًا أن وزير الدفاع الأميركيّ كان قد التقاه مؤخّرًا.
"صفعة لنتنياهو"
الاتفاق السعوديّ الإيرانيّ الذي شكَّل صفعة لنتنياهو، والذي تزامن الكشف عنه، مع تصريحات أطلقها نتنياهو خلال زيارته إلى روما العاصمة الإيطاليّة، مدّعيًا فيها أن اتفاق تطبيع سيتمّ توقيعه قريبًا مع المملكة العربية السعوديّة ما يشكّل توسيعًا لدائرة السلام والمصالحة بين إسرائيل والدول العربيّة والخليجيّة، وردود الفعل عليه كانت تأكيدًا إضافيًّا على كون إسرائيل دولة دون سياسة خارجيّة، بل سياسة داخليّة فقط يمكن تفسيرها على أنها سياسات خارجيّة، فإيران ونشاطها النوويّ كانت في صلب الحملة الانتخابيّة التي قادها نتنياهو، بل قبل ذلك فقد كانت سلاحًا وسوطًا استخدمه نتنياهو واليمين والمستوطنون ضدّ الحكومة السابقة، حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينيت ويائير لبيد، إذ اتهمهما اليمين بأنهما يقفان من إيران النووية موقف العاجز المتفرّج ، فضلًا عن أن نتنياهو كان قد وضع الشأن النوويّ الإيرانيّ وتوسيع نطاق اتفاقيّات ابراهام ، ليأتي الإعلان الإيرانيّ السعوديّ، ليسدل الستار على أيّ إمكانيّة لتحالف سُني ضد إيران كما أراد نتنياهو ويؤجّل ربما إلى أجل غير مسمّى أي تطوّر في العلاقات الإسرائيليّة السعوديّة بسبب مواقف وتصريحات الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير حول الضفة الغربية والأردن والفلسطينيين، والتي اضطرت مستشار الأمن القوميّ الإسرائيليّ تساحي هنغبي للاعتذار أمام المملكة الأردنيّة الهاشميّة، ، وتصريحات الوزيرة ميري ريغف المتعلّقة بالإمارات، والتي أعلنت فيها أنها لا تحبّ الامارات، وأنها لن تزورها مرّة أخرى، و هو ما دعا المعارضة إلى اتهام نتنياهو بأنه وحكومته كانوا منشغلين خلال الأشهر الثلاثة منذ بداية عهد الحكومة الحاليّة بتشريعات شخصانيّة وضيّقة يراد من خلالها تحويل نتنياهو إلى حاكم أوحد، والقضاء على استقلاليّة القضاء وربما الديمقراطيّة، بدلًا من حشد التأييد وفي مقدّمته الأمريكيّ لوقف إيران عن امتلاك أسلحة نوويّة علمًا أن مسؤولين أمريكيّين يؤكّدون أن طهران بحاجة إلى أسبوعين للوصول إلى تخصيب نوويّ بنسبة 90% ما يكفي لصناعة القنبلة النوويّة والرؤوس النوويّة، ما عزاه كثيرون إلى انسحاب أميركا ترامب عام 2018 من الاتفاق بتشجيع من نتنياهو ما رفع القيود عن طهران. وفور هذا الاتفاق سارع السياسيّون الإسرائيليّون من معارضي نتنياهو إلى استغلال الاتفاقيّة لتهجّمات متبادلة، حيث رأى رئيس الوزراء السابق يائير لبيد الاتفاق بأنه فشل كامل وخطير للسياسة الخارجيّة لحكومة نتنياهو السادسة المنشغلة بجنون وحمّى التشريعات القانونيّة ، بينما ألقى نتنياهو المسؤوليّة على حكومة بينيت – لبيد، واتهمها بعدم اتّخاذ موقف قويّ، بما فيه الكفاية، عندما بدأت المحادثات بين الطرفين قبل حوالي عام .
" حملة القضاء على الإرهاب"
الأمر لا يختلف في القضايا الأخرى، والتي يمكن اعتبارها قضايا استراتيجيّة، ونقصد النقاش السطحيّ والشعبويّ بين طرفي الخريطة السياسيّة الإسرائيليّة، بما فيها تلك المتعلّقة بالشأن الفلسطينيّ، أو ما يسمّيه اليمين والمركز في إسرائيل على حدّ سواء" حملة القضاء على الإرهاب"، والقصد هنا ما تشهده الضفة الغربيّة من عمليّات عسكريّة مسلّحة ضدّ الجيش والمستوطنين وبعضها ضدّ مدنيين وغيرهم داخل إسرائيل، ومن هنا انكشفت حقيقة السياسة الإسرائيليّة الخارجيّة في الشأن الفلسطينيّ، واتضح أنها سياسيّة داخليّة، فاليمين وبرئاسة نتنياهو اتهم حكومة لبيد – بينيت بأنها غير حازمة في مواجهة الصواريخ والقذائف من قطاع غزة بسبب مشاركة القائمة العربيّة الموحّدة برئاسة الدكتور منصور عباس ضمن الائتلاف وليس ضمن الحكومة، وبالتالي اتهمها بأنها باعت أمن إسرائيل وحوّلت الميزانيّات لحزب عربيّ يشكّل جزءًا من الإخوان المسلمين. واليوم يواجه نتنياهو وحكومته نفس التهم بالعجز وقلّة الحيلة، وأنها تدرك اليوم الفارق الشاسع بين مجرد القول خلال الحملات الانتخابيّة، والعمل الفعليّ في ساحات العمل ووسط كافّة الاعتبارات المحليّة والدوليّة والإقليميّة. وهي في هذا المجال، أي الشأن الفلسطينيّ لا تصبّ في مصلحة إسرائيل بحكومتها الحاليّة، خاصّة على ضوء المؤتمرين برعاية أميركيّة في العقبة وشرم الشيخ وفيهما تعهدت إسرائيل بعدم البناء في المستوطنات، وعدم تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى والحرم القدسيّ الشريف، وفوق كلّ ذلك منح الوزير سموتريتش الصلاحيّة عن الإدارة المدنيّة، وبالتالي تمكينه من بناء المستوطنات والحدّ من توسّع القرى والبلدات الفلسطينيّة خاصّة في المنطقة" ج" ، وإلى ذلك يضاف قانون العودة إلى مستوطنات منطقة جنين وتحديدًا حومش وسانور وغيرهما والذي أقرته الكنيست مؤخّرًا، ما يعني نهائيًّا وأد أيّ إمكانيّة للحديث عن انسحاب إسرائيليّ من الضفّة الغربيّة، أو حلّ يعتمد مبدأ الدولتين، أو أي كيان فلسطينيّ أيًّا كان. فالشعب الفلسطينيّ غير موجود في نظر سموتريتش الذي يريد ضمّ الضفة الغربيّة، رغم ما يعنيه ذلك من تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائيّة القوميّة ودولة أبارتهايد، تسودها قوانين مختلفة، أو منظومتين قانونيتين أحداهما لليهود والأخرى للفلسطينيّين، تمامًا كما سيكون الحال عليه داخل إسرائيل بعد إقامة "الحرس القوميّ" تحت قيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وإلى هذا سنعود إليه لاحقًا.
كلّ هذه التطوّرات في الشأن الفلسطينيّ تجيء مع اقتراب الذكرى السنويّة الثلاثين لتوقيع اتفاقيّات أوسلو، التي نفخت روح الحياة في النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ. واعتقد كثيرون أنها بداية نهاية النزاع قبل أن يؤكّد الواقع بعمليّاته الانتحاريّة من قبل الفلسطينيين، وانتقال السلطة إلى نتنياهو واليمين إسرائيليًّا بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، كما أنه يجيء في مرحلة يعتبر فيها الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس قائدًا دون سلطات، ودون دعم يقترب من نهاية عهده فهو اليوم في منتصف الثمانينات من عمره، وبالتالي ينتظر الفلسطينيّون معهم إسرائيل والمنطقة وربما العالم هويّة القائد الفلسطينيّ الذي سيخلفه، وليس ذلك فقط، بل هويّة القوى الداعمة له. وهل سيكون أحد قادة فتح من الضفّة الغربيّة(حسين الشيخ وزير الشؤون المدنيّة ربما)، أم من الخارج والاسم الأبرز هنا هو اسم القياديّ الفتحاويّ البارز محمد دحلان المقيم في الإمارات منذ سنوات طويلة، والذي عرض في مقابلة أجرتها معه الإعلاميّة اللبنانيّة المعروفة جيزيل خوري، في شبكة " سكاي نيوز" العربيّة، خطّة لم تحظ برأيي بالاهتمام اللازم والمناسب تتعلّق بحلّ النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، حيث أعلن وربما لأول مرة وبجرأة تستحق الإشادة، أن حلّ الدولتين قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وأن على الفلسطينيين التسليم بذلك وبالتالي التوقّف عن التشبّث بالماضي كما فعلوا طيلة عقود، أو بأضغاث أحلام عمّا قريب سوف تتبدّد، والبحث عن احتمالات، أو سيناريوهات جديدة للحلّ تشكّل خروجًا عن المألوف والمعروف والمتّبع. وقال إن على الفلسطينيين التوجّه إلى صناديق الاقتراع في انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة، ( كانت تأجّلت بسبب رفض إسرائيل مشاركة سكان شرقي القدس) وانتخاب رئيس للسلطة الفلسطينيّة وبرلمان، وبعدها وضع مقترح، أو خطة جديدة للحلّ، وطرحها على طاولة القيادات الإسرائيليّة، قوامها إقامة دولة ثنائيّة القوميّة، قائلًا إن حلّ الدولتين الذي تضمّنته اتفاقيّات أوسلو ، أصبح حلمًا مستحيلًا، وأن نتنياهو رئيس الحكومة الحالي هو من قتله ووأده رغم إعلانه عام 2009 في خطاب بار ايلان الشهير أنه يؤيد حلّ الدولتين، مشترطًا ذلك بشروط تعجيزيّة كان من الواضح أن أحدًا في الطرف الفلسطينيّ لن يقبلها، ويضيف أن إسرائيل إنما تُسَهِّل مهمّة الشعب الفلسطينيّ بالمطالبة بحلّ الدولة ثنائيّة القوميّة، بل تدفعه إلى زاوية يصبح فيها هذا الحلّ، بمثابة الحلّ الوحيد الموجود وربما ليس المنشود، وذلك بسبب تصريحات مفادها أن الضفة الغربية ليست محتلّة، بل هي جزء من أرض إسرائيل كما يقول أعضاء حزب إيتمار بن غفير وبالتالي فإن معاودة الاستيطان في شمال الضفة الغربيّة والتي أخليت خلال الانسحاب الإسرائيليّ من طرف واحد عام 2005، إنما هي عودة إلى ارض الآباء والأجداد، وكذلك التصريحات بأنه ليس هناك ما يسمّى "الشعب الفلسطينيّ "، كما قال وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش، ومن هنا على الفلسطينيّين طرح حلّ الدولة ثنائية القوميّة. وهنا يقول دحلان:" لنطرح حلّ الدولة الواحدة ثنائيّة القوميّة ولنرى أيّ من الإسرائيليّين سيعارض وماذا سيكون موقف المجتمع الدوليّ".
" اختبار النوايا الحقيقيّة"
الظروف الحاليّة الداخليّة في إسرائيل تلقي بظلالها على السياسة الخارجيّة تجاه الفلسطينيّين واحتمالات الحلّ معهم، وبالتالي من الواضح أن أمرين سيحدثان أولهما عدم قيام إسرائيل بأيّ تحرك لحلحلة المشكلة وإيجاد حلّ مهما كان يضع حدًّا للنزاع ، فأحزاب الحكومة الحاليّة تتنافس فيما بينها في المغالاة في التطرف، أما الثاني فهو ازدياد واتساع الأوساط الفلسطينيّة والعربيّة التي ستدعم حلّ الدولة ثنائيّة القوميّة بعد أن أيقنت أن حلّ الدولتين قد مات، وبالتالي ستحاول بذلك اختبار النوايا الحقيقيّة لإسرائيل وحكومتها الحاليّة في هذا المجال، وهل سيقبل اليمين بدولة ثنائيّة القوميّة يكون للفلسطينيّين فيها الحدّ الأدنى من الحقوق حتى لو كانت مدنيّة فقط وليست قوميّة وثقافيّة، أم ستكون دولة أبارتهايد تسودها منظومات متفاوتة من القوانين والتشريعات والأنظمة والعقوبات، وبكلمات أخرى دولة فيها فوقيّة عرقيّة لمجموعة سكانيّة هي اليهود ودونيّة تشرعنها تشريعات لا بدّ ستحاول الحكومة الحاليّة إذا طال عمرها بتركيبتها الحاليّة تنفيذها، أي دولة أبارتهايد تشكّل نسخة شرق أوسطيّة من جنوب افريقيا ، فيها قانون لليهود باعتبارهم أصحاب البلاد والأرض والتاريخ، وقانون آخر للفلسطينيّين فهم شعب غير موجود اختلقته الدول العربيّة وفق الرواية الإسرائيليّة التي كانت منذ عهد غولدة مئير رئيسة الوزراء في سنوات السبعين في القرن السابق.
ازدواج المنظومة القانونيّة لن يكون إذا ما أقيمت الدولة ثنائيّة القوميّة، حكرًا على الفلسطينيّين، بل سيكون هناك من سبقهم إلى ذلك تحت سلطة دولة إسرائيل بيمينها المتطرّف الخلاصيّ، فها هي الحكومة الإسرائيليّة تقرّ في جلستها تشكيل ما يسمى" الحرس القوميّ" وفق التسمية الرسميّة" المُلَطَّفة" ، وهو عمليًّا ميليشيا مسلّحة خاصّة يحرّكها ويسيطر عليها، أو هكذا يريد على الأقلّ، وزير الأمن القوميّ الإسرائيلي إيتمار بن غفير، تضمّ وفقًا لتسميتها فقط جنود احتياط من اليهود فقط، وتعمل على مكافحة العنف وضمان الأمن في المدن المختلطة ولليهود فقط. وتعمل بأوامر وزير أدين بدعم الإرهاب يعتقد أنه من المحظور التظاهر ضدّ الحكومة، وأن المواطنين العرب هم طابور خامس، أما ممثّلوهم في البرلمان فهم من المخربّين الذين يجب منعهم من الترشيح والترشّح والعضويّة في البرلمان، وبالتالي ستكون واحدة من مهام الحرس الوطنيّ البن غفيريّ، ضمان أمن اليهود وفوقيّتهم، وقمع المواطنين العرب خاصّة في النقب والمدن المختلطة، ومنها حيفا وعكا واللد والرملة ويافا، ما يعني وجود منظومتين لفرض القانون والنظام، إحداهما رسميّة وعامّة تشمل أفرادًا من كافّة قطاعات المواطنين في إسرائيل، ومنهم العرب واليهود ومن كافّة المناطق، والثانية موجّهة ضدّ المواطنين العرب ومؤلّفة من يهود لهم خبرة عسكريّة ومواقف سياسيّة معروفة طبعًا تلائم مواقف وزيرهم وقائدهم، في تكرار لحالة تتكرّر في دول الأبارتهايد فقط، وكلّ هذا بفعل، أو بفضل التشريعات الدستوريّة التي يسارع إليها نتنياهو وحكومته ويحتاجون لتنفيذها ضمان دعم إيتمار بن غفير عبر هذه الخطوة التي يعارضها كافّة خبراء الأمن وقادة الشرطة والمستشارة القضائيّة للحكومة وخبراء حقوقيّون من مختلف دول العالم. وهي حالة تذكّرنا بما يحدث اليوم في هنغاريا فيكتور أوربان التي تمّ فيها تشكيل وحدات شرطيّة خاصّة، لقمع المعارضين وإضعاف جهاز القضاء لمنعه من الدفاع عن حقوق المواطنين العرب والأقليّات الأخرى، إذ ابتكر هناك أوربان نموذجًا جديدًا هو نصف ديمقراطيّة، أو ديمقراطيّة هزيلة في حالة تدهور، أو كما يصفه البعض بأنه حكم استبداديّ ناعم يدمج ما بين الخطاب الدينيّ المتزمّت واليمينيّ المتطرّف والرأسماليّة، أو السوق الحرّ المبنيّ على المحسوبيّة وشغل جميع مناصب السلطة في الدولة بمؤيّدين للسلطة وللسلطان(تعيينات سياسيّة للقضاة والمستشارين والمدراء العامين في الوزارات وغيرهم). وتعيين المقرّبين ومنع الرقابة. وهو ما أكّده تقرير الفساد الذي أعدّته منظمة الشفافيّة الدوليّة وصدر في شهر شباط الماضي، وصنَّف هنغاريا الدولة الثانية الأكثر فسادًا في الاتحاد الأوروبيّ، وذلك بسبب تغيير الأنظمة والتعاليم والأنظمة الانتخابيّة لصالح حزب معيّن وقمع الصحافة الحرّة، وتحجيم القضاء. وهذا ما ينتظر إسرائيل إذا ما تواصلت التشريعات والانقلاب الدستوريّ - القضائيّ.
"العزف على مشاعر الانتقام والكراهية"
تصريحات وزراء الحكومة حول الانقلاب القضائيّ – الدستوريّ، ومثلها مظاهرات اليمين المؤيّد للانقلاب القضائيّ ، تثير القلق فهي كلّها تعليلات تعتمد الغيبيّة والعزف على مشاعر الانتقام والكراهية وتكريس التفرقة الطائفيّة، دون استناد إلى وقائع واضحة، بل إنها تعبير عن إثارة الغرائز الأساسيّة والأوليّة، أي أنها النتيجة لتحريض وتضليل واستيلاء على العقل والمنطق ما يذكّرني بقول الكاتب والأديب المصريّ المعروف مصطفى محمود الذي حذَّر من أن صناعة الغيبيات وصناعة الغيبوبة الجماعيّة وغزو العقل والاستيلاء على الفكر أصبحت صناعة العصر الحديث، وأن التحكّم عن بعد (عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ والتضليل الإعلاميّ وعن بعد) أصبح لعبة الكبار ( السلطات والسلاطين والحكام) والصغار( من يضرب بسيفهم)، وكلّ هذا بعيد كلّ البعد عن أي نقاش عقلانيّ، أو حوار يتّسم بالعقلانيّة ( ومن اتّباعها ديكارت وسبينوزا ) التي تعتبر العقل والمنطق مصادر للمعرفة والاستنتاج المنطقيّ المبنيّ على الأُسس العقليّة، السبيل للتوصل إلى الحقيقة، وليس الحواس أو المشاعر أو الغرائز أو غسيل الدماغ، وهو ما لا تتّسم به الحكومة الحاليّة، أو الائتلاف الحاليّ ويقينًا مؤيّدوهما ، ما قد ينذر بقادم أسوأ، وربما صدام ينتج عن فشل مفاوضات الحوار الجارية في ديوان رئيس الدولة. وعندها ستتفجر الغرائز وتسيطر العواطف ويسود التضليل ، وسيؤول إلى نتائج لا تحمد عقباه سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وختامها حرب أهليّة أو دكتاتوريّة، وكلاهما سيّئ.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il