logo

حريّة الفكر والرأي أساس التربية والتعليم الأكاديميّ

المحامي زكي كمال يكتب:
21-02-2023 06:37:36 اخر تحديث: 21-02-2023 07:04:58

هكذا هو تاريخ الدول ومسيرة حياتها والتطوّرات المترتّبة على أحداثها السياسيّة والاقتصاديّة والبرلمانيّة وغيرها، فهو لا يقاس بطوله أي بمدّته الزمنيّة، بل بعرضه أي بمجرياته وتطوّراته وأبعادها.


المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت

وفي العام الأخير، وعبر أمثلة كثيرة بدءًا بأوكرانيا التي ضربتها الحرب وتركيا التي ضربها الزلزال وغيرها وغيرها، هذا هو التاريخ لا يعرف الخطّ المستقيم، وكأنّه يخشى أن يكون حاله كما هو الحال بالنسبة للمريض، فالخطّ المستقيم يعني وفاته، ولذلك، فإنّه أي التاريخ يسير بآليّة متعرّجة، ولكن إلى الأمام دائمًا، وإن كانت الأوضاع في هذه المرحلة صعبة، فإنّ ذلك ليس إلا واحدة من انحناءات التاريخ، والأمر كذلك إذا كانت الأمور على ما يرام، فالأيّام كفيلة أو قادرة على الأقلّ على تحويل الحال إلى أسوأ حال، وهذا أقلّ ما يمكن قوله في الوضع الذي تعيشه إسرائيل اليوم من انقسام داخليّ وهرولة نحو ضرب كافّة معاقل سلطة القضاء والسلطة التشريعيّة، وجعلهما عبر قوانين شخصيّة غير مسبوقة يتمّ سنّها بسرعة البرق، ووسط تجاهل توصيات ونصائح كافّة خبراء الاقتصاد والقانون والدستور، بل تحذيراتهم الخطيرة سواء كانوا من داخل إسرائيل، أو من خارجها، وهذا ما يمكن قوله تأكيدًا على أن حياة الدول تقاس بعرضها أي بمجرياتها، وهو ما قادني إليه تقرير نشره المعهد الدوليّ للديمقراطيّة والمساعدة الانتخابيّة، الذي يعنى بالديمقراطيّة في العالم جاء فيه أن العالم يشهد تزايدًا في النزعات الدكتاتوريّة، أو على الأقل تآكلًا في الديمقراطيّة بما في ذلك بعض الدول التي تغنّت بالديمقراطيّة، لكنها شهدت دون أيّ إثباتات أو أدلّة طعنًا بنتائج الانتخابات مع الإشارة بشكل خاصّ إلى الولايات المتحدة التي حاول فيها أنصار دونالد ترامب الذي دعمه اليمين المسيحيّ والجهات المتطرّفة والمعادية للملوّنين والأقليّات التي تزايدت قوّتها وتأييدها بفعل تغييرات ديمغرافيّة ودينيّة وقوميّة متطرّفة شهدتها الولايات المتحدة، احتلال الكونغرس وإلغاء نتائج الانتخابات، وربما إعدام بعض المعارضين، ومنهم حتى نائب الرئيس في حينه مايك بينس، ( حتى منتصف العام 2021)، وهو ما حدث بعد ذلك في إسرائيل بعد الانتخابات عام 2021 ، والتي أسفرت عن تشكيل حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينيت ( والتي شكّلت في تركيبتها ومشاركة أحزاب اليسار والقائمة العربيّة الموحّدة حركة مناقضة ومعاكسة لتزايد التوجّهات اليمينيّة والمتديّنة، وتعاظم قوة وتأثير اليهود من أصل شرقيّ في إسرائيل عامّة والحكومة الحاليّة خاصّةً) وأن عدد الدول التي تنزلق نحو الاستبداد يتزايد، في حين ارتفع عدد الديمقراطيّات التي كانت قواعدها وسلطاتها الديمقراطيّة راسخة وصامدة، لكنّها أصبحت مهدّدة إلى مستوى لم يبلغه من قبل، بسبب ما سمّاها السياسات الشعبويّة، واستخدام قيود جائحة كورونا لإسكات المنتقدين، ونزوع دول إلى تقليد السلوك المناهض للديمقراطيّة الذي تنتهجه دول أخرى، واستخدام التضليل الإعلاميّ لتقسيم المجتمعات، كما جاء فيه أنه بعد 10 سنوات على موجة الثورات التي عرفت بـ"الربيع العربيّ"، لا يزال الشرق الأوسط "المنطقة الأكثر تسلّطًا في العالم"، وأن هناك فقط 3 ديمقراطيّات هي العراق !!!!!!ولبنان وإسرائيل، بحسب التقرير، الذي امتدح هذه الدول الثلاث، واعتبرها نموذجًا لصمود الديمقراطيّات ( نسبيًّا طبعًا)، والذي نشر في الثلث الأخير من نوفمبر تشرين الثاني 2021، أي قبل أقلّ من عام من فوز أحزاب اليمين في إسرائيل بالانتخابات البرلمانيّة، وما رافق ذلك وتمخّض عنه من حكومة يمين متطرّف سياسيًّا وقضائيًّا واقتصاديًّا، وبالتالي ورغم مرور عام واحدٍ بين نشر التقرير الذي أشاد بديمقراطيّة إسرائيل وبين اليوم، إلا أن المعطيات تغيّرت وتبدّلت على أرض الواقع في إثبات قاطع لكون حياة الدول تقاس بزخم أحداثها، لتجد إسرائيل اليوم نفسها في وضع تحذّرها الدول الصديقة أولًا وقبل العدوّة، ويحذّرها خبراء القضاء والقانون في العالم، ومنهم الخبير الدوليّ ألين درشوفيتس، من انهيار ديمقراطيّتها والزحف نحو الدكتاتوريّة، أو سلطة الرجل الواحد والحزب الواحد، ويقينًا أن التقرير القادم لهذا المعهد سيشمل استنتاجات مغايرة عن إسرائيل، ستكون ربما قريبة من تلك التي أوردها التقرير عن تونس وديمقراطيّتها الهشّة حيث أشار إلى قيام الرئيس قيس سعيد الذي تمّ انتخابه ديمقراطيًّا وبأغلبيّة أصوات الناخبين (ليس غالبيّة مطلقة من الشعب) البرلمان، وأقال القضاة واستبدلهم بمطيعين له، واستحوذ على كلّ السلطات وحرم المعارضة من حقوقها وتمثيلها وعيّن المقرّبين، ولم يحرّك ساكنًا لمعالجة الفساد المستشري، أو معاقبة مرتكبيه. وهو مطابق لما يجري في إسرائيل من محاولة للجم القضاة والمحاكم، وترهيب المعارضة وسنّ القوانين التي تميّز ضدّ الأقليّات دون أن تأخذ الحكومة الحالية بعين الاعتبار التأثيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعلميّة والأكاديميّة لهذه الخطوات، بل وسط تجاهل تامّ لقضايا وهموم المجتمع الأُخرى عملًا بقول أحد أعضاء الائتلاف من أنّ الأهمّ اليوم هو "الإصلاحات القضائيّة" بقوانينها التي تحرم المحاكم من حقّ رقابة ومراقبة عمل البرلمان، وتتيح للحكومة عامّة ورئيسها السيطرة التامّة على تعيين واختيار القضاة والمستشارين القانونيّين في الوزارات، وتمنح البرلمان إمكانيّة سنّ القوانين التي تمنح العفو لمرتكبي المخالفات الجنائيّة والمدانين بها، وتمكّنهم من استلام المناصب الوزاريّة المرموقة، ومنع الاحتجاجات ضدّ الحكومة ومنع حريّة التعبير داخل المؤسّسات الأكاديميّة ومطاردة وملاحقة من يدلي بمواقف لا تتفق ورأي الحكومة الحاليّة، باعتباره خائنًا وسط تجاهل تامّ للحريّة الأكاديميّة وحريّة الرأي، وتأثيرات الدكتاتوريّة على التعليم الأكاديميّ والرخاء الاقتصاديّ وقدرة العلماء على التحديث والتجديد وبالتالي رغبة الشركات العالميّة في الاستثمار ورغبة المؤسّسات الأكاديميّة الكبيرة والمرموقة في خوض غمار التعاون البحثيّ والعلميّ مع مؤسّسات إسرائيليّة، وهذا ما سنعود إليه لاحقًا، من جهة دون أن تتنازل إسرائيل عن إصدار العظات المطالبة بالديمقراطيّة لدول في العالم منها روسيا التي شنّت حربًا على أوكرانيا وإيران التي يقول التقرير عنها وفقًا لتصريحات مدير المعهد المذكور، كيفن زامورا أنه "خرج الناس إلى الشارع للمطالبة بالحريّة والمساواة والكرامة التي حرمهم منها النظام. هناك بعض بصيص الأمل، لكن التوجّه العامّ يبقى قاتمًا"، وهو قاتم اليوم في إسرائيل سياسيًّا، وقضائيًّا، وعلميًّا وأكاديميًّا.

ما سبق، والإشارة إلى التقرير الدولي المذكور، يجيء من باب بالغ الأهميّة، وهو أن التقرير المذكور لا يتطرّق إلى الجوانب السياسيّة والحزبيّة فقط، بل إنه يتطرّق إلى التأثيرات الخطيرة للتغييرات القضائيّة وضعف الديمقراطيّة على الاقتصاد والحصانة الاجتماعيّة والشعور بالانتماء إلى الكيان، أو الدولة، والرغبة في المساهمة في تنشيط العجلة الإنتاجيّة والصناعيّة، وخاصّة في مجال الهايتك والصناعات المتقدّمة وعالم الأكاديميا، وبالتالي يمكن الجزم في حالة إسرائيل أن تأثيرات التغييرات القضائيّة، وتغيير أسس النظام الديمقراطيّ والفصل بين السلطات وتركيز السلطات في أيدي رجل واحد، أو حزب واحد، ستفوق حدود البرلمان والحكومة، وأن السياسات المتطرّفة والقرارات ببناء المنازل في المستوطنات وشرعنة نقاط استيطانيّة عشوائيّة، وما تلاه من شجب أوروبيّ أمريكيّ مشترك، أشار إلى أن ذلك يمسّ بالقانون الدوليّ، ستصل كافّة مرافق الحياة، وستؤكّد أن إسرائيل الدولة قرّرت التنازل عن المبادئ الليبراليّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان واحترام الأعراف والقوانين والاتفاقيّات الدوليّة، كما أن المسّ بالحريّات سيصل العالم الأكاديميّ الذي يستند في أساسه إلى الليبراليّة وحريّة الفكر والتعبير وحريّة الإنسان والمساواة، وانعدام التمييز العرقيّ والطائفيّ والفكريّ والدينيّ، وهي كلّها قيم يبدو أن إسرائيل قرّرت في عهد حكومتها الحاليّة وانطلاقًا من مصالح رئيسها القضائيّة ولوائح الاتهام الجنائيّة المقدّمة ضدّه والإدانات التي لحقت بوزير الداخليّة أرييه درعي ، فالديمقراطيّة وحريّة الرأي أساس الحياة الأكاديميّة، وهو ما شهدته إسرائيل خلال عقود، ومنذ إقامتها حتى، عبر تعاون وثيق بين العالمين الأكاديميّ من جهة والصناعيّ التكنولوجيّ بكافّة جوانبه من جهة أخرى، وعلى الصعيدين العالميّ والمحليّ والإقليميّ، وبالتالي فإن أيّ مسّ بالحريّة المدنيّة والحريّات السياسيّة والانتخابيّة والبرلمانيّة سيمسّ بالحريّات الأكاديميّة وحريّة البحث من جهة وسيمنع استثمارات أجنبيّة في الأبحاث العلميّة في الجامعات الإسرائيليّة، خاصّة وأن معاهد الأبحاث في إسرائيل والجامعات الكبيرة المختلفة تعتمد في أبحاثها العلميّة والتقنيّة المتقدّمة على منح ومساعدات ماليّة من صناديق أوروبيّة وأمريكيّة تحرّكها معايير الحريّة الأكاديميّة والبحثيّة وحقوق الإنسان عبر تعاونات دوليّة، وتبادل الخبراء والبعثات والطلاب وتجنيد أموال الدعم والميزانيّات البحثيّة، ومن هنا تنبع معارضة العالم الأكاديميّ والبحثيّ وأصحاب الشركات الصناعيّة المحليّة والمشتركة وخاصّة التقنيّات العالية، وبالتالي فشل الحقل الأكاديميّ، أو الحياة الأكاديميّة في إسرائيل، ووقف عجلة الأبحاث والتطوير التي حوَّلت إسرائيل إلى" شعب الستارت أب " وإلى موقع تنعدم فيه حريّة التعبير والتفكير والتعدديّة والبحث العلميّ والدراسات المختلفة في كافّة قطاعات الحياة الأكاديميّة العلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والتربويّة وغيرها، والتي لا تلائم توجّهات الحكومة وسياساتها ولا تخدم مصالحها وتوجّهاتها ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الأبحاث حول أخطار عدم تدريس الطلاب اليهود المتزمتين المواضيع الرئيسيّة كاللغة الإنجليزيّة والرياضيّات وعلم الحاسوب، وتلك حول الأخطار التي ستلحق بإسرائيل إذا ضمّت الضفة الغربية، أو الأبحاث الاقتصاديّة حول النتائج الخطيرة المترتّبة على عدم انخراط اليهود الحريديم في الحياة الاقتصاديّة، وحول ضرورة استثمار الميزانيّات في المجتمع العربيّ، وتعزيز مشاركته في الحياة الأكاديميّة والعلميّة والصناعيّة والتشغيليّة في كافّة المرافق وغيرها، واقتصار هذه المؤسّسات الأكاديميّة على أبحاث ومواقف تُرضي الحكومة والسلطة والفئة المتسلّطة، ورفض أيّ تعدّديّة حضاريّة وثقافيّة، بل إخضاعها إلى قرارات سياسيّة تمامًا كما يحدث في جهاز التربية العاديّ، أي المدارس الإسرائيليّة التي أكّدت الأبحاث التي أجراها أكاديميّون أنه يُعَلِّم ولا يربّي، لأنّه يمثّل تأثيرات سياسية انعكست في تقسيمه إلى عدة منظومات لكلّ منها أهدافه وقياداته وتوجّهاته كالتعليم الرسميّ اليهوديّ والتعليم الرسمي العربي والتعليم الرسميّ المتديّن (تسيطر عليه الأحزاب الصهيونيّة المتديّنة) والتعليم الحريديّ (تسيطر عليه الأحزاب المتديّنة الأصوليّة اليهوديّة الغربيّة) وذلك الخاصّ باليهود المتديّنين الشرقيّين (تسيطر عليه حركة شاس المتديّنة عبر شبكة مدارس ومعاهد دينيّة منفردة)، والتعليم الاستيطانيّ. وكلّها توزيعات سياسيّة وطائفيّة تنعكس اليوم بأجلى صورها في الحالة السياسيّة التي تعيشها إسرائيل، والتي كشفت حقيقة خطيرة حاول كثيرون إخفاءها، أو منّوا أنفسهم بأن يكونوا على خطأ، وهي أن إسرائيل لم تكن أبدًا دولة الشعب الواحد، بل إنها دولة أسباط وقبائل وحدهم هدف هو إقامة الدولة وجمعهم الخوف من الأخطار الوجوديّة الخارجيّة التي أخفت الخلافات، بل العداءات الداخليّة وانعدام أيّ نوع من قبول التعدديّة والحوار بين الثقافات المتعدّدة في إسرائيل على اختلافها الدينيّ والعقائديّ والعرقيّ وغيره ، التي ما أن خفّت حدّتها او زالت، حتى اتضحت الحقيقة المرّة وهي حقيقة الانقسام الداخليّ الخطير في إسرائيل ومشاعر العداء والكراهية المتأصّلة خاصّة بين اليهود من أصل شرقيّ واليهود الغربيّين الذين قادوا قيام دولة إسرائيل، وسيطروا بفعل ثقافتهم وتعليمهم ومستواهم الأكاديميّ والعلميّ على مقاليد السلطة والأكاديميا والقضاء والسياسة والاقتصاد والتعليم ، ما خلق، بل كرَّس لدى اليهود الشرقيّين مشاعر النقص والغضب التي استغلّها سياسيّون خاصّة من اليمين السياسيّ والدينيّ الاستيطانيّ لأهداف سياسيّة وسط تكريس مشاعر النقص واللعب على وتر الطائفيّة والفئويّة، بل محاولة تغيير النظام السياسيّ والقضائيّ والبرلمانيّ وإخضاعه لخدمة نفس الأهداف السياسيّة، وشرعنة كلّ المخالفات والموبقات وصولًا إلى الهدف المنشود، وكلّ ذلك وسط حالة خطيرة تتمترس كلّ فئة فيها في موقعها، فيكرّر اليهود الشرقيّون موال " تمييز النخب الغربيّة ضدهم" ويغني اليمين موّال تمييز الجهاز القضائيّ ضدّه، بل عدائه له ودعمه لليسار، وبالتالي يجب تقليم أظافره وتقييد حريّته واختيار القضاة من قبل السياسيّين وإخضاعهم لرئيس الحكومة وغيره من الساسة وشلّ عمل البرلمان كسلطة تشريعيّة وجعلة أداة طيِّعة في أيدي السلطة التنفيذيّة.

"حان وقت الانتقام"
ما تعيشه إسرائيل اليوم هو تعبير خطير عن حالةٍ قرّرت فيها جهة ما سياسيّة أنه حان الوقت "للانتقام" لغبنٍ تعتقد أنه لحق بها، وهو ما عبَّر عنه وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش خلال لقائه رؤساء المؤسّسات المصرفيّة والماليّة في البلاد يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، حين اعتبر تحذيراتهم من الأخطار الاقتصاديّة المحليّة والعالميّة الخطيرة، للتغييرات التي يريدها والحكومة في الجهاز القضائيّ وتحطيم استقلاليّة القضاء، موقفًا سياسيًّا، وليس وجهة نظر اقتصاديّة يمكن مقارعتها ومناقشتها، ليسألهم لماذا لم يعارضوا اتفاقيّات أوسلو عام 1993، أو عمليّة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة عام 2005 ، في أفضل تعبير عن حالة العمى السياسيّ والنشوة اليمينيّة، ومشاعر النقمة على كلّ من لا يتماشى مع اليمين ومواقفه، أو يعارضه، وتأكيد لا سابق له أن الديمقراطيّة الإسرائيليّة هشّة، بل صوريّة وأن كافّة الشعارات حول التعدّديّة كانت كاذبة، فإٍسرائيل 2023 بقيادة اليمين هي إسرائيل الحقيقيّة المنقسمة إلى طوائف متعادية لن تتورّع عن الصدام فيما بينها، وأنها ليست بوتقة انصهر فيها الجميع، بل " تجمّع من الطوائف المهاجرة التي وصلت إسرائيل كلّ منها من دولة أخرى وحافظت سرًّا على مواقفها وخصوصيّاتها وقبلت على مضض الديمقراطيّة حتى اشتدّ ساعد هذه الطوائف وخاصّة الشرقيّة والمتديّنين واليمينيّين، فأظهروا ما أخفوه من توجّهات تناقض أبسط قواعد الديمقراطيّة، وانتصر الخلاف على الحوار، بل تم رفض التنوّع الفكريّ والسياسيّ، واستبدال الديمقراطيّة، وإن كانت صوريّة بسيطرة مطلقة لحزب وشخص وتوجّه، وهو ما يقلق الباحثين الذين يخشون اليوم حربًا أهليّة إسرائيليّة تجعلها صورة طبق الأصل عن لبنان، أو حتى سوريا، تؤكّد فشل جهاز التربية والتعليم، وفشل الحكومات المتتالية في تذويت وتكريس وترسيخ فكرة كون معظم الصراعات الداخليّة والعالميّة والإقليميّة تنبع من عدم التسامح، والذي يأتي في معظم الأحيان من الجهل، وأن التنوّع في العالم خلق من أجل إثراء تجربة المشاركة والتعلّم من الاختلافات بشكل يمكن أن تعزّز التعايش السلميّ بين الناس، عبر حوارٍ بين الثقافات وتبادل الأفكار والاختلافات ، وأن التنوّع فضيلة وأن مواطني الدولة متّحدين في المصير المشترك أكثر من اختلافهم بهويّاتهم المتباينة ، وأن المدارس والجامعات ومؤسّسات التعليم العالي هي التي عليها، إضافة الى الأهل والبيئة، دور تعزيز الحوار بين الثقافات، لأنها تمثّل مراكز للمعرفة والحوار .

ليس ذلك فحسب، فرغم تراجع الديمقراطيّة في العالم إلا أن كافّة الأبحاث تشير إلى أن الجيل الشباب (وهو من قاد مظاهرات ميدان التحرير في القاهرة، ومظاهرات المطالبة بالحريّة في تونس وغيرها، والتحرّكات الديمقراطيّة وإن كانت بطيئة في دول عربيّة وآسيويّة وحتى أفريقية أخرى) يرغب في بناء مجتمعات قائمة على الإنصاف والعدالة الاجتماعيّة والمشاركة والمستقبل المشترك، تتطلّب مشاركة الجميع في تعزيز وضمان النمو الاجتماعيّ-الاقتصاديّ القائم على الديمقراطيّة، واحترام الحكم والقانون والحقوق والحريّات الأساسيّة التي تشمل التنوّع الثقافيّ، وأن للشباب دورًا هامًّا في تقدم الحوار بين المجموعات والتوجّهات والتفاهم الثقافيّ المتبادل كما يمكنهم المساعدة في رسم الحياة الاجتماعيّة، والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة لمجتمعاتهم وبلادهم، خاصّة إذا كانت تتّسم بالتعدديّة الثقافيّة والعرقيّة ، ولكن الوضع في إسرائيل يسير بخلاف ذلك فالشباب يتّجهون إلى اتباع المواقف اليمينيّة المتطرّفة التي تقصي الغير والمختلف دينيًّا وسياسيًّا وعرقيًّا وميولًا. وتبيح سلب حقوقه ومعاملته كأنه مواطن، أو انسان من الدرجة الثالثة، أو أدنى من ذلك واشتراط مواطنته بالولاء والطاعة وإبقاء سلاح الطرد والسجن والقتل مسلَّطًا عليه، واعتقال من يعارض (حتى لو كان معارضا سياسيّا اليوم وقائدا عسكريّا بارزا ومتفوّقا في السابق)، أو حتى قتله وإعدامه وزجّه في السجن في حالة تشكّل تفسيرًا خطيرًا، أو ربما الأصحّ طفرة خطيرة، لما قصده كان صامويل هنتنجتون أحد الباحثين البارزين في السياسة وعلم الاجتماع وغيره، الذي اجتهد لصياغة رؤية حول الواقع الحضاريّ الذي يعيشه العالم، فاعتمد مقولة الصدام (The Clash ) كتعبير عن لحظة الصراع الذي يجري، وسيستمر في أرض الواقع سواء كان الصدام حضاريًّا أو عرقيًّا أو سياسيًّا أو غيره، وسواء كان داخليًّا محليًّا أو إقليميًّا أو كونيًّا، أو صدامًا جزئيًّا، بين طرفين أو ثلاثة إلى صدام كليّ تشترك فيه مجمل القوى بمختلف تشكيلاتها، فأمّا أن يصل الصدام هذا إلى التطابق بين المواقف المختلفة، أو يصل إلى حالة الصدام والتنافر، فتعدّد التوجّهات والحضارات والثقافات في إسرائيل وبسبب خلافات تجاهلها الجميع معتقدين أن الأيام ستشكّل لها الدواء والعلاج، يشكّل اليوم السبب الرئيسيّ في ما تعيشه إسرائيل اليوم من واقع يناقض المتوقع والمنشود، وما جاء في كتاب الباحث الهنديّ، بيكو باريك، "سياسة جديدة للهويّة: المبادئ السياسية لعالم يتّسم بالاعتماد المتبادل"، الذي يعالج قضية الهويّة والدين والعرق والعادات والتقاليد بقوّة؛ في نقاش قضيّة التعايش والتسامح بين المواطنين في الدول عامّة، وبين المهاجرين والسكان الأصليّين خاصّة. فالباحث يؤكّد أن الشعور بالانتماء المشترك يكون أيسر عندما تشعر الأقليّة والأغلبيّة؛ بسلام مع أنفسها ومع الآخرين. أمّا إذا شعرت الأقليّات أيًّا كانت بالتهديد والحصار والخوف على مستقبلها فسوف تصبح في موقف دفاعيّ تفضّل العزلة، وتنتظر الفرصة السانحة للانتقام، أو الاحتجاج أو غير ذلك. ومن هنا الاستنتاج بأنه يجب أن تلتزم المجتمعات الديمقراطيّة، بحكم طبيعتها، باتّباع نموذج التكامل بين الثقافات، لأنه النموذج الوحيد الذي يؤكّد الحقّ للجميع في الوجود، وأن يعبّر عن نفسه. وهذا يعني أنه في إطار نموذج متعدّد الثقافات، يجب أن يتمتّع كلّ فرد بنفس حقوق الأغلبيّة، فالتعدديّة الثقافيّة والحضاريّة تتطلّب وضع سياسات تحقّق العدالة، من أجل تحقيق المساواة على المستويين القانونيّ والاجتماعيّ، وتعزيز المساواة الحقيقيّة في الفرص. في الوقت نفسه، فإنه يتطلّب ممارسات أساسها برلمان وأحزاب وإعلام وجهاز قضائيّ وحكومة وأكاديميا ومدارس تحترم تعدّد الثقافات، وتعلّم العيش معًا وتثقّف الناس لتنمية معرفتهم وفهمهم واحترامهم للتنوّع والاختلاف.

" أسطورة الكهف"
هذا تمامًا ما لا يعنيه سيل القوانين الجديدة والتوجّهات السياسيّة للحكومة وأحزابها، وربما أيضًا ردود المعارضة التلقائيّة والأوتوماتيكيّة على اقتراحات الحوار، وإن كنت على ثقة أنها تأتي من باب إسقاط الواجب وليست جادّة في ذلك، وبالتالي تتمترس الحكومة والائتلاف في مواقفها وتتمترس المعارضة في مواقفها دون أن يرى أيّ منهم الحقيقة، تمامًا كما يحدث في" أسطورة الكهف" في كتاب "الجمهوريّة" للفيلسوف الكبير أفلاطون ، والتي تحكي قصّة مجموعة من السجناء تمّ حبسهم في الكهف منذ الولادة حيث تكون ظهورهم معاكسة للمدخل، ولا يستطيعون تحريك رؤوسهم دون أيّ معرفة عن العالم الخارجيّ، ومن وقت لآخر يمرّ من قربهم الناس ما يؤدّي إلى انعكاس الظلال والصدى على الجدار الذي يراه السجناء، الذين يسمّون هذه الأوهام ويعتقدون أنهم يدركون الكيان الحقيقيّ للأشياء، ولكن عندما تحرّر أحد السجناء واستطاع الخروج من الكهف للمرّة الأولى في حياته، فوجئ برؤية عندما رأى الأشياء على حقيقتها، وبأن كلّ ما كان يراه كان مجرّد ظلال حقيقة الأشياء . يعود السجين إلى الكهف، ليشارك أصحابه السجناء بما عرفه لكنّ السجناء اعتقدوا أن خروجه من "الإطار" حوّله إلى غبيّ وأعمى، وأنه بات لا يستطيع رؤية الحقيقة.

هذا ما يحدث اليوم. تمترس في المواقف، ورفض لرؤية الحقيقة وتعدّديّة حضاريّة وثقافيّة تم تجاهلها تحوّلت إلى عداء شديد، والنتيجة حديث عن هدم للديمقراطيّة وتسلّط ودكتاتوريّة، وربما حرب أهليّة، أو حرب مختلفة تجمع الأطياف المتناحرة وقت الشدّة والخوف من هدم الكيان.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il