logo

مقال | الديمقراطيّة بين الأغلبيّة العدديّة ودكتاتوريّة الأغلبيّة

بقلم : المحامي زكي كمال
30-12-2022 10:50:35 اخر تحديث: 30-12-2022 10:53:57

حدثان في موقعين مختلفين، أمريكا وإسرائيل، تفصل بينهما آلاف الكيلومترات، كما يفصل بينهما البعد الزمانيّ والذي وصل نحو ثمانٍ وأربعين ساعة. كما اختلفت، بل ربّما تناقضت ملابسات


المحامي زكي كمال

وحيثيّات كلّ منهما، لكنّهما وفق اختبار النتيجة، يصبّان في بوتقة واحدة استنتاجاتها خطيرة جدًا، تستوجب الوقوف عندها، أولهما في واشنطن، وهو القرار الصادر في العشرين من الشهر الحالي كانون الأول 2022، عن لجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس النواب الأمريكيّ، والتي حقّقت في اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكيّ في السادس من كانون الثاني عام 2020، قبيل انتقال السلطة إلى الديمقراطيّ جو بايدن، وتحديدًا قبل حفل تنصيبه، توصية وزارة العدل الأمريكيّة بمحاكمة الرئيس السابق، بتهم جنائيّة، منها إثارة التمرّد والتآمر على الحكومة بسبب محاولته قلب نتائج انتخابات 2020، رأسًا على عقب، والهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكيّ. واتهمت اللجنة ترامب بخرق أربعة قوانين جنائيّة فيدراليّة، تتعلّق بعرقلة إجراءات رسميّة للكونجرس، والمساعدة في تمرّد والتآمر للاحتيال على الولايات المتحدة وإثارة الفتنة، والثاني في إسرائيل، وهو إعلان رئيس الوزراء المكلّف بنيامين نتنياهو، مساء الأربعاء الحادي والعشرين من كانون الأول ، في اتصال هاتفيّ لرئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ أنه تمكّن من تشكيل حكومة جديدة فستؤدّي اليمين الدستوريّة، مع الإشارة إلى نصّ المحادثة، وتحديدًا الجملة التي تطرّق فيها نتنياهو إلى "الدعم الجماهيريّ الواضح الذي حصل عليه نتيجة الانتخابات الأخيرة". وهو بالمناسبة نفس الادّعاء، بكلمات أو بأُخرى، الذي كرّره دونالد ترامب حينها ودفعه كما دفع مؤيّديه إلى اقتحام الكابيتول في خطوة شكّلت إعلان الحرب على كافة المؤسّسات الرسميّة ومؤسّسات الحكم في الولايات المتحدة، بما فيها وزارة العدل والادّعاء العام وجهاز القضاء ولجنة الانتخابات وقدسيّة مؤسّسات الدولة بما فيها البرلمان والسلطة التشريعيّة وغيرها. وهما حدثان رغم اختلاف الظروف التي رافقت وسبقت حدوثهما، فاقتحام الكونغرس جاء بعد خسارة ترامب الانتخابات في صناديق الاقتراع، وبعد أن ردّت المحاكم كافّة الاستئنافات التي قدّمها محاموه ، لكنّه قرّر بدلًا من قبول الحسم الديمقراطيّ والقضائيّ معاقبة الجهاز القضائيّ والسياسيّ واعتبارهما أعداء له يجب هدمهما وتغييرهما، لكي يستجيبا لأهوائه بل نزواته، باعتباره الرئيس الأعلى والحاكم الواحد الأوحد الذي منحه الله للولايات المتحدة دون غيره، محذّرًا إياهما بذلك مستقبلًا من مجرّد التفكير بالخروج عن طوع الحاكم ترامب، أو اتخاذ قرارات لا تروق له، ولا تخدمه ولا تمنحه "كارت بلانش" أي التفويض الكامل والتام لقيادة البلاد كما يريد، وتنفيذ ما يريد من تشريعات وتعيينات. وليس ذلك فحسب، بل أن تحذيره هذا لم يكن الأوّل فهو سبق وعين قضاة يستجيبون لمواقفه في المحكمة العليا الأمريكية، ووفق اعتبارات سياسيّة، لكنّ القضاة في أدنى الهرم القضائيّ، لم يفهموا كما يبدو الرسالة التي أرسلها ترامب فقرر إيصالها إليهم بوسيلة أخرى، هي رفض الحسم الديمقراطيّ واعتبار كلّ خسارة في الصناديق نتيجة مزوّرة لا تعكس "قرار الجماهير والشعب" ، أمّا إعلان نتنياهو أنه نجح في تشكيل حكومة جديدة، فقد سبقه، على المدى القصير، حالة مغايرة هي فوز نتنياهو في الانتخابات الأخيرة، وحصوله على تأييد أربعةٍ وستين مؤيّدًا من اليمين واليمين المتدين الاستيطانيّ المتطرّف، قادت نتنياهو ورغم مناقضتها لنتائج الانتخابات الأمريكيّة، إلى نفس النتيجة، ومفادها أنه يجب اتّخاذ كافّة الخطوات اللازمة لكبح جماح، أو هدم، أو "إعادة تأديب وتربية" كافّة الهيئات القضائيّة وسلطات تنفيذ القانون، التي يعتبرها نتنياهو عدوة، حاولت وما زالت تحاول أخذ السلطة منه، أو تنفيذ انقلاب قضائيّ وسياسيّ، خاصّة وأنه سبقها قيام هذه الجهات وخاصّة القضائيّة بتقديم لوائح اتهام بحقّ نتنياهو نفسه بتهم خيانة الأمانة والائتمان وتلقّي الرشاوى. وكيف لها أن تجرؤ على ذلك وهو القائد الأوحد- في نظر مؤيّديه واليمين والمستوطنين- وملك إسرائيل وحامي حماها الذي حاول خصومه السياسيون ومعارضوه ومنافسوه هزمه انتخابيًّا ففشلوا فلجأوا إلى "هزمه والانقلاب عليه قضائيًّا"، ولفّقوا له لوائح اتهام لا أساس لها من الصحّة، كما سبقها خسارته الانتخابات، لما سميّ لاحقًا حكومة التغيير فقرّر كما ترامب، رفض النتيجة واعتبارها غير شرعيّة، لكنّه استعاض عن اقتحام البرلمان بمغادرته وعدم الاعتراف به، بل مقاطعة عمل البرلمان نهائيًّا.

رغم الفوارق السابقة الذكر بين الحالتين إلا أن بينهما قواسم مشتركة كثيرة، أولها أننا في كلتا الحالتين نتحدث عن حالة تعرّض لها لكاتب والباحث السياسيّ الأمريكيّ جيسون ويليك في مقال له بصحيفة واشنطن بوست (Washington Post) الأمريكيّة واصفًا إيّاها بالتصدّع الليبراليّ والديمقراطيّ، قائلًا إن التصدّع الذي عاشه المحافظون في بريطانيا مؤخّرًا اعتُبر تحذيرًا للمحافظين الأمريكيين، وإن التطورات التي شهدتها الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة وانهيار التحالف المناهض لبنيامين نتنياهو يمكن اعتباره تحذيرا لليبراليين الأمريكيين ويقصد الديمقراطيين، موضّحًا أن الحدث الأهمّ الذي وقع في انتخابات إسرائيل، ويجب استخلاص الدروس منه هو أنّ توجيه أيّ اتهام جنائيّ لشخصيّة سياسيّة محافظة ويمينيّة لا يعني بالضرورة إقصاءه خارج السباق الانتخابيّ، فنتنياهو متّهم بتهم خطيرة كان من المتوقّع، ومن المفهوم ضمنًا أن تؤدي إلى انسحاب المتهم بها من الحلبة السياسيّة والحياة الحزبيّة، أو على الأقل فقدان التأييد الشعبيّ والجماهيريّ، فإسحق رابين استقال من منصبه في سبعينيات القرن الماضي كرئيس للوزراء ، على خلفيّة حساب مصرفيّ تملكه زوجته، لكن اتّضح أن الأمر ليس كذلك في الحركات السياسيّة المحافظة والمتزمتة خاصّة مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ تعاظمت توجّهات تأليه القائد واعتباره مرسَلًا مقدّسًا وملكًا يجب رجم معارضيه، بل أكثر من ذلك، أمّا "قرار الشعب" فهو ساري المفعول إذا كان لصالح هذا القائد، لكنّه مرفوض إن لم يكن كذلك. وهو ما يحصل في الولايات المتحدة، فرغم أن ترامب قد يواجه خطر المساءلة، أو المحاكمة القانونيّة بسبب أزمة الوثائق الرسميّة السريّة التي نقلها إلى مقرّ إقامته، ومنها مستندات بالغة السريّة والخطورة تتعلّق بشؤون نوويّة واستراتيجيّة أخرى إضافة إلى ملفات تهرّبه الضريبيّ على مدار سنوات، أو بسبب الإجراءات التي قام بها للتأثير على نتائج انتخابات 2020، إلا أن كل ذلك لا يعني البتة حسم مصيره السياسيّ، رغم انخفاض شعبيّته بشكل قليل خاصّة على ضوء عدم نجاح الجمهوريين في إلحاق خسارة واضحة بالديمقراطيين في انتخابات منتصف الفترة، ما يعني أن نتنياهو فاز بالانتخابات رغم استمرار محاكمته، فترامب يحظى بدعم واسع رغم فضائحه وخرقه للتعليمات والقوانين، كما أن الرئيس البرازيليّ السابق لولا دا سيلفا فاز في الانتخابات الأخيرة، علمًا أنه كان قد أدين بتهم فساد قبل إلغاء تلك الإدانة.

"الحاكم الأوحد والمطلق وربما الدكتاتوريّ"

القواسم المشتركة هنا، بين قادة يقتربون من صيغة الحاكم الأوحد والمطلق وربما الدكتاتوريّ، كثيرة وهي تشمل استعداء الجهاز القضائيّ برمّته ومحاولة تعديل في أذرع تنفيذ القوانين، بل تغييرها بشكل غير مسبوق وإلصاق تهمة، أو شبهة الخيانة والانتماء السياسيّ حتى بأجهزة الأمن. فها هو أحد قادة المستوطنين في الضفة الغربيّة وهو يوسي داغان يتهم أحد أذرع الجيش الإسرائيليّ بأنه" يساري متطرّف" ، تمامًا كما اتهم الليكود واليمين المفتش العام السابق للشرطة روني الشيخ والمستشار القضائيّ السابق الدكتور أفيحاي مندلبليت، بالعداء لنتنياهو واليمين- رغم أن نتنياهو هو من عينهما- لمجرّد إنهما قررا التحقيق معه بشبهات الرشاوى وخيانة الأمانة ومن ثم قرر مندلبليت توجيه التهم له، وها هو نتنياهو اليوم يوافق على تعديل كافّة القوانين لتمكين وزير أدين للمرة الثانية بمخالفات جنائيّة ماليّة خطيرة هو أرييه درعي ، من إشغال منصب وزير في الحكومة بخلاف ما كان متبّعًا وساريًا من القوانين والقضاء منذ إقامة الدولة وتحطيمًا للموروث في قضية نقاء اليدين للوزراء، فإذا كان نتنياهو يواصل مهامه، رغم تهم جنائيّة خطيرة، فلماذا لا يكون ذلك من نصيب وزرائه. وإذا كان بالإمكان تعديل القانون حتى بأثر فوريّ وتراجعيّ، لتمكين درعي من ذلك فلماذا لا يمكن ذلك في قضية تغيير "قانون الشرطة أو أنظمة الشرطة" لمصلحة إيتمار بن غفير، وإذا كان القضاة في المحكمة العليا لا يرقصون على أنغام يعزفها نتنياهو فلماذا لا نغيرهم، أو نفرض على رؤوسهم الخوف والرهبة والوجل عبر تغيير وسيلة وطريقة انتخابهم، وتحويلها إلى سياسية حزبيّة تجعلهم يدينون بالولاء للسياسيين وليس للقانون، تمامًا كما ترامب الذي اختار قضاة المحكمة العليا ليس وفق مؤهلاتهم، بل وفق انتماءاتهم السياسيّة ومدى دعمهم غير المحدود له. فها هو الائتلاف الحكوميّ الإسرائيليّ الذي شكّلت بموجبه حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، يعتزم إضافة إلى تعديل القوانين، العمل على اتخاذ إجراءات لتقليص نفوذ وصلاحيات المستشار القضائي للحكومّة، عبر الفصل في صلاحيات المستشار القانونيّة الجنائيّة والاستشارة للحكومة في محاولة لجعل السلطة التنفيذيّة متحرّرة من توصياته، بينما أعلنت الأحزاب في الائتلاف الدفع بمجموعة واسعة من الإصلاحات القضائيّة بمجرّد توليها مزاولة السلطة، بما في ذلك مشروع قانون "فقرة التجاوز أو التغليب " الذي يمنح الكنيست صلاحيّة لتجاوز محكمة العدل العليا، بالإضافة إلى تشريع يمنح السياسيين مزيدًا من القوّة في اختيار القضاة، وليس ذلك فقط فالائتلاف القادم لن يتورّع عن تكرار ما فعله ترامب من إقالة للمدعي العام الأمريكي جيفري بيرمان ( من منهاتن)، لأنّه قرّر التحقيق مع مقربيه، وهذا استنادًا إلى تصريحات المقربين، بل أقرب المقربين من نتنياهو، ومنهم النائبين من الليكود شلومو كارعي الذي قال إنه سيكون من الأجدر بالمستشارة القضائيّة للحكومة أن تستقيل من تلقاء نفسها (حفاظًا على ماء وجهها)، وطالي غوطليف التي قالت إن قرارات المحكمة العليا خاصّة وقرارات المحاكم عامّة ليست ملزمة ( وغوطليف هذه محامية في مهنتها )، وهو ما دفع في وقت سابق من هذا الشهر، برئيسة محكمة العدل العليا القاضية إستير حايوت إلى التحذير علنًا من تشريعات تهدف إلى تغيير دور الجهاز القضائيّ ومحكمة العدل العليا في محاولة، أو بهدف إضعاف الجهاز القضائيّ وتدعيم القوة السياسية للكنيست والأحزاب التي تتركّب منها الحكومة الحاليّة خاصّة، والسيطرة على جهاز التربية ومناهج التعليم، لتكون الدينيّة والتوراتيّة ومظاهر تديين الحيّز العام، وذلك على حساب الحريّات والتيّار العلمانيّ ما سيكون بمثابة نقطة تحوّل في المشهد السياسيّ الإسرائيليّ، وهو ما سينعكس على الصراع مع الفلسطينيين ( مشروع قانون عودة المستوطنين إلى مستوطنة "حومش"، وإلغاء خطّة الانسحاب من طرفٍ واحد من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية عام 2005) . ولعل الأهمّ تداعيات ذلك على الشؤون الداخليّة، والحريّات، والانتهاكات للحقوق، والتطرّف في ظلّ تنامي مظاهر العنصريّة بإسرائيل، وهو ما دفع في الأسبوع الماضي المستشارة القضائيّة غالي بهاراف-ميارا إلى الإعلان أن النطاق الواسع للإصلاحات القضائيّة المتوقّعة يمكن أن يجعل من إسرائيل ديمقراطيّة بالاسم فقط.

"سيطرة الرجل الواحد والحزب الواحد"

في هذا السياق يحضرني القول الشهير لجوزيف ستالين الذي قال: "من يدلون بأصواتهم لا يقرّرون نتائج الانتخابات من يفرزون الأصوات هم من يقرّرون". ويبدو أنّ من صوتوا لصالح التحالف الجديد في إسرائيل أرادوا نتنياهو رئيسًا للوزراء لكن معظمهم، أو بعضهم يقينًا لم يفكروا، ولو للحظة أن نتنياهو وشركاه (المستفيدين من نتائج التصويت) سيأخذون الأمور إلى هذا المنحى من تغليب الدين والتطرف الدينيّ وإعادة إسرائيل عبر تضييقات على القضاء وقيود على الحيز العام وتربية الأجيال القادمة والسيطرة الدينية المتطرفة على مناهج التعليم، ومنع المواصلات يوم السبت والتنازل نهائيًّا عن محاولات تطبيق قانون التجنيد الإلزاميّ على الشبان اليهود المتدينين المتزمتين ( الحريديم) حيث من الأساس لا يسير قانون التجنيد الإجباريّ على المرأة المتديّنة المتزمّتة، وحتى المعتدلة دينيًّا واستبداله بتواجدهم في معاهد دينيّة منغلقة يتعلّمون فيها التوراة فقط دون دراسة ما يؤهلهم للعمل، أو التعليم الأكاديميّة كاللغات والرياضيّات وغيرها، وبالتالي يحول دون الانخراط في سوق العمل وإبقائهم رهن الفقر والجهل، وتحويل أحزابهم إلى أجسام سياسية تقدّس سيطرة الرجل الواحد والحزب الواحد، وتستعدي المختلف والجهاز القضائي وتحرّض على المسّ به، وترفض المساهمة في حماية الدولة والخدمة العسكريّة، لتصبح بذلك هيئات تعتمد الفوضى والترهيب سياسة دائمة، وليتحول رئيس الوزراء الحالي في نظرها إلى قائد منزه واوحد أشبه ما يكون بحاكم دكتاتوريّ تمامًا، كما أراد ترامب أن يكون في الولايات المتحدة، آمرًا ناهيًا يقيل من يشاء ويعيِّن من يشاء، يحرض على خصومه ويتهمهم بالخيانة وعدم الولاء- كما قال عن اليهود الأمريكيّين الذين يؤيدون الحزب الديمقراطيّ-، وهذا ما حذّرت منه المستشار ة القضائيّة الحالية في إسرائيل، أي من مغبّة تحول إسرائيل إلى ديمقراطية بالاسم تتراجع فيها القيم الليبراليّة وحقوق الإنسان، وحق التعبير عن الرأي وحرية العبادة أمام سطوة التزمّت السياسيّ وتقديس الزعيم وتنزيهه، واعتباره فوق كلّ حسيب وأعلى من كلّ رقيب قضائيّ، أو أخلاقيّ أو سياسيّ، وأخطر من ذلك سيطرة التطرف الدينيّ والقوميّ، دون أن يدرك قادة إسرائيل ومؤسّسيها من اليهود العلمانيين، ومنهم زئيف جابوتنسكي مؤسّس ومنظِّر الليكود، قال إن اليهود الذين يؤمنون بالغيبيّات تساورهم أفكار ومواقف مرفوضة حول تدخل الدين في الحياة اليوميّة، ورفض الحريات والنزاهة وحرية الاختيار والتمييز ضد النساء وهذا مرفوض. وهذا ما فعله زعيم آخر لحزب الليكود هو مناحيم بيغن قرَّب المتزمتين المتدينين – الحريديم- من الدولة ودمجهم في حياتها السياسيّة وغيرها، بينما قال بنيامين هرتسل إنه يرفض أيّ سلطة ونظام دينيّ مضيفًا:" ثيوقراطيّة؟ لا إطلاقًا. لن نسمح للتوجهات الثيوقراطيّة لرجال الدين بأن ترفع رأسها. سنعرف كيف نبقي المتدينين في معابدهم وكنسهم تمامًا، كما سنعرف كيف نبقي جيشنا في قواعده"، بخلاف ما يحدث اليوم من تأليه للقائد السياسيّ، وإطلاق يديه ليرتكب المخالفات الجنائيّة والماليّة وغيرها، ومعه أبناء عائلته الذين يعيشون على نفقة الشعب وينكّلون بالبسطاء، تمامًا كما كان الحال في رومانيا نيكولاي تشاوشيكو، الذي سيطر عبر تأجيج المشاعر القوميّة والدينيّة وتحطيم الجهاز القضائيّ، وتجيير الدين لمصلحته السياسيّة عبر رجال دين أعلنوا تأييدهم له علنًا ودون قيود، ومنع غير مؤيديه من الحديث والتعبير عن الرأي وأقال شخصيات سياسية وقضائيّة وعسكريّة وغيرها ممّن لم ترق له مواقفهم، وهو ما قاله إهود براك رئيس الوزراء السابق عندما شبّه رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالدكتاتور الرومانيّ نيكولاي تشاوشيسكو، متهمًا إيّاه بـخيانة مصالح الشعب اليهوديّ، وقيادة إسرائيل نحو الهاوية، وذكّره بمصير تشاوشيسكو، بفعل محاكمة السلطات القضائيّة في إسرائيل نتنياهو بثلاث قضايا لحالات منفصلة من حالات الكسب غير المشروع، ويجري التحقيق فيها، ولم تصدر أيّ إدانة له حتى الآن، فالائتلاف الجديد نسي أو تناسى، أو تجاهل الحقيقة الواقعة ومفادها إنه حتى وإن كان حكم الأغلبيّة هو الشائع في فهم الممارسات الحاليّة للديمقراطيّة في العالم، إلا أن ذلك لا يعني أن يصل إلى ديكتاتورية الأغلبيّة، فتصبح عندها الديمقراطيّات ديكتاتوريّات هشّة ومزيّفة بغطاء ديمقراطيّ، وهذه حالة خطيرة ناهيك عن أن الوصول إلى هذه الحالة لا يؤدي إلى تحقيق ممارسة إيجابيّة أو ممارسة أفضل. كما تناسى الائتلاف الجديد أنه صحيح أن المنتصر في الانتخابات يحق له العمل نحو تنفيذ برنامجه، لكنه لا يمكن أن يسعى إلى تغيير الدولة لصالحه وتوجيهها لخدمة مصالحه، لأن ذلك يُعد خرقًا واضحًا لمبدأ الحريّة السياسيّة واحترام التعدديّة، فالدولة أكبر من أن تُختزل في فكر تيار واحد أو حزب واحد.

"الانزلاق نحو العنصريّة وحتى الفاشيّة"

ختامًا لا بدّ من القول، بل والتحذير من أن اعتماد الائتلاف للحكومة الجديدة على ترديد مصطلح أو عبارة" قرار الشعب"، أو " غالبية الشعب قرّرت" يعني تقديس مبدأ الأغلبيّة العدديّة (الميكانيكيّة)، وتكريس مفاهيمه الخاطئة عبر إخضاع كلّ شيء لمواقف ونهج الحاكم دون ضمان حقوق الأقليّة سياسيّة كانت أم عرقيّة أم دينيّة أم غيرها، ما يعني التجاهل الخطير للتطوّرات المحتملة الناجمة عن ذلك، ومنها في أحيان عديدة كما أثبتت التجارب التاريخيّة، ومنها الانزلاق نحو العنصريّة وحتى الفاشيّة، فهناك في كلّ حالة تبسط الأغلبيّة العدديّة سطوتها وتفرض عنوة مواقفها دون اعتبار للقانون والممارسة الديمقراطيّة، ومنح الأقليّة مساحتها وحريتها وحقوقها، عوامل مرجِحَّة قد تقود إلى الفاشية، ما لم تحدث حوادث تاريخيّة، أو احتجاجات شعبيّة تقلّل من هذه الخطورة، فهل الاحتجاجات التي أخذت بوادرها تظهر في إسرائيل عبر مظاهرات على مفترقات الطرق ومعها رسائل غاضبة من كبار رجال الحيش والسياسة والقضاء، ضد نهج الائتلاف القادم، قادرة على ذلك وهل هي على الأقل الشرارة الأولى، أم أنها سحابة صيف عما قريب ستنقشع؟

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il