logo

مقال : السياسة الحكيمة دائمة والشعارات الغوغائية زائلة

بقلم : المحامي زكي كمال
08-08-2022 07:56:52 اخر تحديث: 18-10-2022 08:07:34

هي واحدة من تلك اللحظات التي تتكرر في حياتنا، وتدفعنا الى الاعتقاد ان أقوال بعض الحكماء والمؤرخين، لم تكن مجرد عبارات تنشد الأفضل او تحاول رسم ملامح الحياة

 
المحامي زكي كمال

وصياغة تعليماتها وقوانينها، مستعينة بعبر وتبصرات، بل أنها كانت صادقة وصائبة واقرب الى التوقع والتنبؤ منه الى النصيحة، تلك التي جعلتني وعلى خلفية احداث آنية شهدتها دول وكيانات عربية مؤخرًا، اطيل التفكير في بعض ما ورد على لسان الفيلسوف ارسطو خلال وصفه للديمقراطية محاولًا وصفها وشرح ايجابياتها لكنه بذهنه المتوقد وحدسه اليقظ، لم يتناس ولم ينس، التحذير من " اخطار الديمقراطيات المزيفة " التي اسماها الديمقراطيات الغوغائية، قائلًا ان اسوأ انواع الديمقراطيات هي الديمقراطية الغوغائية (تكون احيانًا ديمقراطية أغلبية) التي لا تلتزم بالقانون، وما جاء على لسان المؤرخ السياسي لتاريخ الولايات المتحدة اوستن رني في كتابه "اسس الحكم" ، من أن الحكم او النظام الديمقراطي يعتمد على تشكيل "حكومة قوانين وليس حكومة أشخاص" أي حكومة تستمد من القانون قوتها وسلطتها من جهة وتدرك منه حدودها وحدود سلطتها، فتلتزم بالديمقراطية او على الأقل، ونظرًا  لانعدام الديمقراطية مقابل كثرة الحديث عنها في بعض الدول العربية، الإدارة السياسية والدبلوماسية السليمة داخليًا وخارجيًا، وما تمليها على الحكام من تعريف واضح للأغلبية واحترام للديمقراطية يضاف اليها التزام بالمصلحة العامة بعيدًا عن الترهات والشعارات والمصالح الخاصة من جاه ومال وكرامة شخصية تجعل "الديمقراطية الغوغائية" البديل عن "ديمقراطية الاغلبية" أو الإدارة السليمة الدبلوماسية والسياسية بدلًا من الإدارة الغوغائية، وللأسف فإن تجارب الحكم في دول عربية كثيرة وتصرفات الحكام والعسكر في بلاد أخرى  تؤكد، ان مخاوف ارسطو اليوناني واوستن رني الامريكي، كانت في محلها رغم ان اقوالهما جاءت عشرات ومئات السنين قبل يومنا هذا، حيث تشهد دولٌ عربية غوغائيات من انواع متعددة، عسكرية ودينية وعشائرية واجتماعية جعلت من "عرفها وقانونها العام" بديلًا عن القانون والديمقراطية، فهي لا تؤمن بتداول او انتقال السلطة بشكل سلمي، وترفض النظام المدني في بلادها، وتستند في سلطانها وسلطتها الى  اعتبارات غير دستورية وغير مدنية. لتبقى السلطة رهينة الغوغائيات في الزعامة السياسية بعيدًا عن الإدارة والشفافية، ما يجعل مصائر شعوبها معلقة بالنزوات لدكتاتور او لطبقة حاكمة او اغلبية شعبية، وليس لأُسس ومبادئ جوهرية ثابتة تقوم على حكم العقل والقانون.

أربعة احداث شهدتها دول عربية أولها ما رافق زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الى السعودية وقرار ولي عهدها، الآمر الناهي والحاكم الوحيد، انتداب والي مكة لاستقبال الرئيس الأمريكي، وثانيها ما آلت اليه الأوضاع في تونس التي تحولت من "ديمقراطية الأغلبية" الى "ديمقراطية الغوغائية" في ظل انفراد قيس سعيد بالسلطة وحل البرلمان والحكومة وتغيير الدستور واجراء انتخابات حصل فيها في المحصلة النهائية على أكثر من 20% بقليل من الأصوات وسط عزوف الناس عن المشاركة فيها لمعرفتها بان النتيجة محسومة مسبقًا وان قيس سعيد (وهو المثقف والمتنور خرّيج  كليّة الحقوق والعلوم السياسية بتونس) قرر بشكل نهائي وتام وأد الديمقراطية الى غير رجعة ليصبح القائد الأوحد، وثالثها ما يحدث في السودان من "بيع لثرواته الطبيعية وخاصة الذهب وبالمجان الى روسيا خدمة لأهداف الفئة العسكرية حاليًا ونظام عمر البشير سابقًا، دون ان يستفيد العامة شيئًا"، ورابعها ما حدث خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى المانيا من حديث عن "50 كارثة -هولوكوست- ارتكبتها إسرائيل"  وتبعات ذلك على الفلسطينيين وما تعنيه هذه الأقوال - التي لا أعرف من اين جاءت وما مغزاها او هدفها - من حيث التأييد الدولي للفلسطينيين وحقوقهم، جعلتني مرة أخرى أتساءل ما اذا كانت هذه الدول المذكورة سابقًا ودول أخرى  قادرة على ان تتبنى نهجًا سياسيًا ونظام حكم جديدًا يمكن وصفه بانه خطوة تعني انها تخلصت من كل مواريثها القديمة التي تأسست عليها، وانها فهمت أن الشعارات لا تجدي، وان مجرد الحديث الفارغ عن الحريات والديمقراطيات  وحرص القيادات عليها لا ينفع ، بقدر ما ينفع تبديل الذهنيات، وزرع أسس وقوانين جديدة، وإصلاح كل الترهات المألوفة التي أكل الدهر عليها وشرب، وصولًا الى قيادات تعرف معنى إدارة الدولة، وكيف يمكن بناء العلاقة الطبيعية بين الدولة التي يقوم على إدارتها، وبين المجتمع الذي يقوم على خدمته عبر أمثلة حقيقية لتطور مفهوم القيادة السياسية والاجتماعية معا ملخصها ان السلطة ومن يملكها ليست اكبر من الدولة ومؤسساتها، بل ان الدولة هي مجموعة مؤسسات في خدمة الشعب، تستند الى قوانين واضحة تحكم العلاقات بين المواطن والسلطة وتحدد صلاحيات الحاكم واعراف واضحة تحكم العلاقات الخارجية وبروتوكولات معروفة لكل حادث بما فيها استقبال الرؤساء والزعماء من دول العالم، بعيدًا عن  نزوات الحاكم، وكلها أمور ملخصها "معنى القيادة" . 
        
"نفقد البوصلة ونتبع الغوغائية"
هذا ما لم يحدث حين وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة الشهر الماضي ( تموز 2022)  في زيارة رسمية للسعودية دامت يومين، حين كان في مقدمة مستقبليه أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، في خطوة اعتبرها الكثيرون انتقاصا من مكانة بايدن ومحاولة لرد الصاع له على إعلانه انه لن يصافح محمد بن سلمان، رغم ان بعض "الكتاب والصحافيين المقربين من السلطة" حاولوا "توفير الفتاوى لها" مؤكدين ان الطائرة وصلت إلى مطار جدة حسب البروتوكول السعودي، كما حدث مع الرؤساء السابقين دونالد ترامب وباراك أوباما حيث استقبلهما خالد الفيصل أمير منطقة مكة ليكون الاستقبال الرسمي في القصر الملكي، متناسين تغريدة تركي القحطاني، المقرب من الأسرة الحاكمة والتي قال فيها: "سيتشرّف الرئيس بايدن بأن يكون في استقباله نائب أمير منطقة مكة المكرمة الأمير بدر بن سلطان بن عبدالعزيز يوم الجمعة في جدة"، وهي لغة خطاب غير مسبوقة في التعامل السعودي مع الحليف الأمريكي، فمحمد  بن سلمان سبق وان استقبل بعض الزعماء الذين يهتم بالترحيب بهم، كما فعل مع أمير قطر تميم بن حمد، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وغيرهم، فما الذي تغيَر هذه المرة؟ وما المقصود من تصرف كهذا إلا اذا كان الهدف منه معاملة الرئيس بايدن بالند وعدم استقباله ردًا على إعلانه انه "سيلتقي الملك سلمان، ولن يلتقي محمد بن سلمان وحيدًا" ،  وهو تصريح له ما يبرره فسلمان هو الموازي مكانة ومنصبًا لبايدن باعتباره رأس الدولة (رغم ان ولي العهد هو الحاكم الفعلي منذ سنوات)، بمعنى ان بن سلمان  أراد ربما بذلك إبلاغ بايدن بانه الحاكم الفعلي وانه هو من يقرر كل شيء وانه هو من اختار والي مكة لاستقباله (تمامًا كما لو تم اختيار رئيس بلدية واشنطن لاستقبال ضيف رسمي تحط طائرته في احد مطاراتها ؟)، ويبدو واضحًا ان ولي العهد السعودي والدولة السعودية فضَّل في هذه الحالة "اتباع الموروث القديم" واتخذ تصرفا يناقض البروتوكولات المتعارف عليها، وذلك خدمة لأهداف ضيقة لقائد ما أراد منها ان يسترد اعتباره، بخطوة إجرائية صغيرة لا بد ان الدولة العظمى أمريكا ستبقى تذكرها لسنوات طويلة، فضعف أمريكا الذي كشفت عنه زيارة بايدن وحاجتها الى النفط السعودي بديلًا عن النفط الروسي بسبب الحرب الأوكرانية هي حالة مؤقتة بل زائلة، ستعود بعدها الأمور الى مجاريها وسيعود ميزان القوى الى حاله الصحيح، وعندها "ستُقَدِم أمريكا فاتورة الحساب للسعودية مضاعفة"، ولنا في التاريخ عبرة، فحادثة "الانتقام  الغوغائي من السفير التركي" في إسرائيل بعد احداث سفينة مرمرة  وجعله يجلس على كرسي أقل ارتفاعًا من كرسي وزير الخارجية في حينه افيغدور ليبرمان، كانت وما زالت عالقة في أذهان تركيا، التي عملت إسرائيل جاهدة لاستعادة علاقاتها الطبيعية معها وأوفدت اليها لذلك الرئيس الحالي يتسحاق هرتسوغ ووزير الخارجية السابق ورئيس الوزراء الحالي يائير لبيد، فالسياسة الدولية تمقت الغوغائيات والإهانات الشخصية وتُبْنى وفق بروتوكولات واضحة لا مجال لخرقها، لكننا في الشرق كما في الشرق، تشرئب اعناقنا وتتوهج شراييننا غضبًا لشعورنا بالمس بكرامتنا، فنفقد البوصلة ونتبع الغوغائية، الشخصية والرسمية، والرد الغريزي  بدلًا من تحكيم العقل والمنطق.

والشيء بالشيء يذكر، فحديث ارسطو عن "ديمقراطية غوغائية" تستبدل "ديمقراطية الأغلبية" وتحذيره من أخطار هذا، يبدو كأنه توقع صادق وتام لما آلت اليه الأوضاع في تونس التي توسم الكثيرون فيها خيرًا باعتبارها "اول الغيث قطر" او الزهرة التي تبشر بقدوم الربيع، او ما تم تسميته زورًا وخطأً "الربيع العربي" وهي الدولة التي تم فيها استبدال حكم زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي (الحاكم الفعلي للبلاد)، دون إراقة الدماء، لكنها سرعان ما انقلبت امورها وتغيرت أوضاعها خاصة بعد الانتخابات  الديمقراطية عام 2019 التي فاز فيها قيس سعيد، رجل القانون والمثقف والذي يملك مواقف وآراء متنورة وغربية،  والذي يواصل اليوم  تعزيز قبضته على البلاد منذ منح نفسه صلاحيات واسعة وسيطر على مختلف السلطات في تموز 2021، عندما علق عمل البرلمان وأقال رئيس الحكومة، مدعيًا إنه يهدف إلى" إنقاذ بلدٍ  كان غارقا في شلل سياسي وأزمة اقتصادية من خلال إعادة تشكيل نظام الحكم وإصلاح الدستور"  فيما يتهمه خصومه بالانقلاب، بينما يعلن هو على رؤوس الأشهاد انه حقق نجاحا في الاستفتاء  الذي اجراه في الخامس والعشرين من آب الماضي (25.7.2022) بموافقة غالبية كبيرة من المشاركين فيه على مشروع الدستور الجديد الذي يمنحه صلاحيات واسعة قد تعرض الديموقراطية التونسية الفتية للخطر، لكن معارضيه يؤكدون ان نسبة المشاركة المتدنية ( 27 % ) تقوّض شرعية العملية الانتخابية، وسط مقاطعة أحزاب المعارضة الرئيسية للدستور الذي يُخشى أن يعيد البلاد إلى نظام سلطوي شبيه بالذي كان قائماً قبل العام 2011، علمًا ان 94% من المشاركين في الاستفتاء صوتوا بنعم أي ما لا يزيد في المجمل عن 25% من أصحاب حق الاقتراع  في تونس.

قيس سعيد حوَّل ديمقراطية الأغلبية في تونس الى "الديمقراطية الغوغائية" بمعنى انه استغل تأييد قادة الجيش له ومكنهم ومقربيهم من مناصب مرموقة مقابل دعمهم لخطواته غير الديمقراطية وغير الدستورية، في خطوة تعيد الى الأذهان تجارب دول عربية عديدة، فما مكَّن سعيد من تنفيذ مخططاته لم يكن إلا تأييد القوات المسلّحة التونسية لقراراته، وهو ما أكدته الصور التي تسربت عن  الاجتماع الذي عقده مع قادة الأجهزة المسلّحة التونسية، ما يؤكد ان ما جرى في تونس هو انقضاض على الديمقراطية بمساعدة العسكر تمامًا كما حدث أكثر من مرة في دول عربية عديدة، كما سبق وحدث في مصر التي يستوحي منها قيس سعيد مثالًا يحتذى، علمًا ان ما فعله قيس سعيد يجعل من تونس ومصر دولتين شهدت كل منهما" ثورتين"   كان عنوانهما العريض «الشعب يريد»… فقد كانت الأولى في مصر ضد حسني مبارك بعنوان" الشعب يريد إسقاط النظام" والثانية ضد مرسي بعنوان" الشعب يريد !!! إسقاط الإخوان " وكذلك في تونس فالأولى بعنوان" الشعب يريد الديمقراطية" عام 2019 والثانية ايضًا بعنوان" الشعب يريد" عام 2021 ، أو بالأحرى" انا الشعب وانا اريد"، دون سؤال الشعب  ودون تمكينه  من فرض مشيئته على الحكم بآليات ديمقراطية، بل تمكين الرئيس من السيطرة على الديمقراطية وجعلها اقرب الى الدكتاتورية وحكم الرجل الواحد، وهذا دربٌ قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى وأد الديمقراطية ، عبر تكريس حكم الأقلية وإقصاء الأغلبية وجعلها تمتنع عن المشاركة في العملية السياسية لأن النتيجة محسومة مسبقًا، ولأن المنافس هو الخصم والحكم في نفس الوقت، يجير لنفسه ثروات البلاد  ومقدراتها.

"حكم القانون يتحول الى حكم العسكر"
كذلك الامر في السودان، التي ومنذ انهيار نظام البشير فيها تتراوح بين حكم العسكر وبين الفوضى التي ما زالت تُنْشَر، فالحديث عن ديمقراطية وعن تولي الجيش مقاليد السلطة لفترة معينة حتى يتم ترتيب البيت الداخلي وإجراء انتخابات ديمقراطية يحكمها القانون، تحول الى فوضى ومحاولات انقلاب وتدخلات اجنبية، وتحولت سلطة القانون او حكومة قوانين الى حكومة أشخاص تخدم أجنداتهم أي انها نهت عن خلق وأتت بمثله بل بأسوأ منه دون ان تدرك ان ذلك "عار عليها إن فعلت عظيم" ، فحياة المواطنين لا قيمة لها ووعود الديمقراطية تبخرت الى غير رجعة ازهقها  شغف العسكر بالسلطة وتمسكهم بها، اما مقدرات البلاد فذهبت ادراج الرياح ومعها ثرواتها ومحاصيلها وكله لمصلحة تكريس "حكم الأشخاص" وليس حكم القانون، فالسودان يعاني المجاعة والفقر رغم انه أخصب بلاد الشرق الأوسط ومنجم للثروات والنفط والخيرات، لكن هذه الثروات يتم نهبها بموافقة السلطات التي تغيرت لكن نهجها لم يتغير فالغوغائية والتفرد هما السمة السائدة، ونشير هنا الى ما تم الكشف عنه من " تفريط بالثروات" وخاصة الذهب لصالح روسيا واستبداله في أحسن الأحوال بأسلحة تكرس نظام العسكر القامع للحريات وتطيل عمر وأمد سيطرته على مقاليد الحكم، حيث تم الكشف عن نشاط  شركتي "ميرو غولد" و"كوش " الروسيتين اللتين تعملان في مجال تعدين الذهب في السودان، ليتضح ان الأولى (ميرو غولد) حصلت على ترخيص استثنائي خلال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير ويجدد العقد سنوياً. ولا تبذل هذه الشركة جهداً كبيراً مقابل ما تحصل عليه من كميات كبيرة من الذهب، حيث توفر فقط الآليات والمعدات الخاصة باستخراج الذهب من الصخور والجبال في المناطق النائية، وان الحكومة الأولى لرئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك حاولت إخضاع كل الشركات التي تعمل في استخراج الذهب لمعايير تضمن ان تحصل حكومة السودان على ثلث الكمية المستخرجة!!!، وان تخضع الشركات بما فيها شركة ميرو غولد، إلى المراجعة من ناحية الترخيص والاتفاقيات، لكن شخصيات سودانية متنفذة من نفس الحكومة منعت محاولات ترتيب الأمور وصياغة اتفاقيات بديلة تضمن الثلث (وهو أضعاف ما تحصل عليه السودان اليوم)، وليتضح ان الشركتين المذكورتين تتبعان لشركة فاغنر الروسية وهي شركة منحها الرئيس السوداني السابق عمر البشير شخصيًا صلاحيات استثنائية لممارسة العمل في مجال الذهب كمكافأة لرئيسها يفغيني بريغوزين على نجاحه بإقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالسماح للبشير بزيارة روسيا مرتين في تشرين الثاني 2017، وتموز 2018، لتحصل الشركة بالمقابل على سيطرة تامة على منطقة غنية بالذهب شمال العاصمة السودانية الخرطوم، تهيمن فيها على أعمال التنقيب. ويسميها السكان المحليون "الشركة الروسية" التي يقول المحليون عنها: "الروس يدفعون أفضل، ونحن لا نعرف الكثير عنهم" في إشارة الى "استعباد الحكومة السودانية للمنقبين عن الذهب وحرمانهم حتى من رواتبهم ووسائل عيشهم"، ولم يتوقف نشاط "فاغنر" رغم استيلاء الجيش السوداني على السلطة في تشرين الأول 2021 بل عمّقت "فاغنر" شراكتها مع قائده  محمد حمدان دقلو، وليس ذلك فقط بل تدعم مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية. وفي غربي السودان، تعد "فاغنر" مركزاً محتملاً لاستخراج اليورانيوم، بمعنى ان العسكر يريد البقاء في السلطة وتحويل السودان الى دكتاتورية عسكرية دائمة تحكمها شعارات الماضي والاعتبارات الغوغائية حتى لو كان ذلك عبر الاستعانة بمرتزقة أجانب او رهن ثروات البلاد لشركات أجنبية تضمن للمسؤولين العسكريين اليوم والمدنيين المتدينين أمس، حسابات بنكية متضخمة بمليارات الدولارات مقابل قهر اقتصادي للمواطنين ، وهنا مرة أخرى يتحول "حكم القانون الى حكم العسكر" والديمقراطية  إلى دكتاتورية وغوغائية عسكرية وترهن البلاد وثرواتها لضمان بقائها في السلطة دون اكتراث للشعب ومصالحه وحقوقه.

"تبخر الحلم بكيان مستقل ومتطور"
وحكم الأشخاص، هو ما تعيشه السلطة الفلسطينية التي تحولت ديمقراطيتها المبنية على قوانين وتشريعات الى توصيات غير ملزمة وتحولت الوعود بانتخابات رئاسية وتشريعية وبداية عهد جديد يتمتع الفلسطيني فيه بالحرية والرفاهية والحقوق الى أضغاث أحلام تبخر معها الحلم بكيان مستقل ومتطور، لأسباب منها ما هو خارجي وخارج عن إمكانيات السلطة الفلسطينية، لكن منها ما هو داخلي كالانقسام والفئوية واستمرار استخدام "الوسائل والشعارات القديمة" وعدم الانتقال الى مرحلة الإدارة السياسية بدلًا من مرحلة الشعارات والتصريحات الغوغائية التي لا طائل منها بل انها تضر أحيانًا بالمصلحة الفلسطينية وتجعل التأييد العالمي، في عالم يخلو من المبادئ وتحكمه معادلات القوة والتأثير، غاية لا يتم تحقيقها، وهو ما كان مؤخرًا من تصريحات صدرت عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال زيارة لألمانيا حين تحدث عن "50 كارثة الحقتها إسرائيل بالفلسطينيين" وكأنه من حيث موقع التصريحات، العاصمة الألمانية برلين عاصمة الرايخ الثالث الألماني عرش النازية، وموعدها وهو يتزامن مع اقتراب الذكرى السنوية الخمسين لأحداث الدورة الأولمبية في ميونيخ عام 1972 والتي قُتِل خلالها 11 رياضيًا اسرائيليًا في عملية مسلحة نفذتها منظمة أيلول الأسود الفلسطينية، ووسط استمرار الخلاف بين إسرائيل وألمانيا حول مسؤولية الألمان ومقتل بعض الرياضيين جراء عملية انقاذ ألمانية فاشلة ناهيك عن الخلاف حول حجم التعويضات ما جعل إسرائيل تعلن انها ستقاطع المراسم السنوية لإحياء ذكرى رياضييها المذكورين، وكأنه ينثر الملح بكميات هائلة على جرح ألماني نازف ومفتوح، خاصة وأن القيادات الألمانية تنشد عبر سياساتها الموالية والمؤيدة لإسرائيل غفران اليهود وإسرائيل والعالم، لمسؤوليتها عن المحرقة النازية، ناهيك عن انه بقوله هذا ألحق الضرر بالرواية الفلسطينية حول المذابح الإسرائيلية التي لحقت بالفلسطينيين في دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة، وجعل التضامن العالمي مع هذه الرواية ومطالبة الدول الاوروبية  لإسرائيل بالاعتراف بمسؤوليتها عنها، أمرًا غير ذي جدوى إن لم يكن مستحيلًا، نظرًا لأقوال محمود عباس التي تقارن بين الكارثة النازية التي ألمت باليهود وبين المذابح التي ارتكبتها إسرائيل، والتي تم الكشف مؤخرًا عن وثائق تثبت حدوثها، فالكارثة النازية وشعور المانيا وأوروبا بالذنب إزاءها يمنع أي تعاطف مع أي رواية تحاول مقارنتها بأي حدث آخر في العصر الحديث سواء كان ذلك مذابح بلدة "مي لاي" الفيتنامية التي نفذها جنود الجيش الأمريكي عام 1968 ضد القرية المذكورة وفق أوامر واضحة ألزمتهم بقتل البشر وتدمير الحجر وجعل القرية دمارًا وخرابًا وأطلالًا لا تبقي للحياة أي أثر، او مذابح دير ياسين في نيسان 1948 التي أودت بحياة مئات الفلسطينيين، او كفر قاسم في تشرين الأول عام 1956 والتي تم فيها إزهاق أرواح 49 فلسطينيًا وهي المذبحة التي انتهت بتغريم قائد القوة التي نفذت المذبحة وهو الجنرال يسسخار شدمي بقيمة قرش واحد، أو الطنطورة في أيار 1948 (90 قتيلًا) ، كما وثقها الفيلم الوثائقي "طنطورة" الذي تم عرضه مؤخرًا ويستند الى وثائق من أرشيف دولة إسرائيل، أو غيرها وغيرها، وهذا ما بدا واضحًا من اقوال الصحف ووسائل الإعلام الألمانية وتصريحات السياسيين هناك وفي الولايات المتحدة (دون الخوض في التصريحات الغاضبة والمستنكرة في إسرائيل)، وتكفي الإشارة الى ما جاء في صحيفة "أوغسبورغر ألغماينة" الألمانية في السابع عشر من الشهر الحالي من انتقادات، جاء فيها أن "تصريحات الرئيس الفلسطيني تكشف نواحٍي عديدة حاول إخفاءها، فلطالما قدم نفسه في الدول الغربية على أنه رجل مصالحة، لكنه أزاح اللثام عن وجهه أخيرًا كمُحرض معاد للسامية. ومع ذلك، فإن قطاعات واسعة من الساسة الألمان يتبعون سرديته بشأن الشعب المضطهد والمحروم من حقوقه". واستطردت الصحيفة أن عباس يريد كل شيء في الأراضي الفلسطينية باستثناء الديمقراطية، وهذه جوانب كثيرا ما يتم التغاضي عنها "ملمحةً الى ان عباس لم يحترم القوانين والبروتوكولات التي جعلت المانيا تستقبله رسميًا كرئيس دولة رغم انه ليس كذلك".

هي أربعة أمثلة تشير الى توجهات مقلقة مفادها ان الدول الأربع (لو اعتبرنا السلطة الفلسطينية كذلك) وعدد من الدول العربية، ما زالت بحاجة الى قيادات تجيد الإدارة السياسية والاقتصادية وليس فقط ترديد الشعارات، وقيادة تضع في المقام الأول مصلحة مواطنيها وبلادها بعيدًا عن الغوغائيات وتقديس الذات والقيادات وتجيير كافة المقدرات والثروات لخدمة الشعب بدلًا من جعلها وسيلة لضمان البقاء في السلطة كيفما كان ومهما كان.. والخلاصة ان الدول والشعوب لن تتقدم إلا بالحرية والديمقراطية اما الغوغائية وحكم الأشخاص فيعني بقاء الدول والشعوب خارج ركب الحضارة والتقدم، وعليه يجب إلغاء الفكر"انا الدولة والدولة أنا"..


هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:
 bassam@panet.co.il.