logo

طوباس: مخيم الفارعة يُودع حارس الفالوجة

موقع بانيت وصحيفة بانوراما
24-02-2022 12:06:13 اخر تحديث: 18-10-2022 08:31:59

ودع مخيم الفارعة مؤخرا محمد صالح العرجا (أبو عاطف)، أحد حراس ذاكرة النكبة، وابن قرية الفالوجة المدمرة، عن عمر يناهز 88 عامًا. واستردت وزارة الإعلام


صور من وزارة الاعلام

مختارات من شهادات عديدة جمعتها مع العرجا، قبل رحيله، ضمن حلقات "ذاكرة لا تصدأ"، التي نظمها الوزارة واللجنة الشعبية للخدمات في المخيم طوال 9 سنوات.

"لبلدنا قصة تاريخية، عمرها أكثر من ثمانية قرون"
وقال محمد صالح عرجا قبل رحيله: "كان عدد سكان بلدتنا خمسة آلاف، وفيها بلدية، ومدارس ثانوية وابتدائية للبنات، وأربع كتاتيب، ومركز صحي، ومحكمة، ومسلخ للحوم، وكانت متطورة، وتعيش على الزراعة، ثم تحولت إلى التجارة؛ لوقوعها شمال غزة وغرب الخليل".
وأضاف: "لبلدنا قصة تاريخية، عمرها أكثر من ثمانية قرون، وترتبط بأحمد بن محيي الدين البطالحي (الأشهب)، الذي مات في الفالوجة، ودفن في منطقة (زريق الخندق)، 3 كم غرباً، وانتشر أولاده فيها، وظل مقامه مكاناً يرتبط بالنذر، وإيفاء الدين، وحل الخصومات".
وعدد عائلات الفالوجة: السعافين، وعقيلان، والنجار، والنشاش، والمطرية، والبراجنة، وسرد مناطقها، كالشومرة، والخصاص، وأم النعاج، والرسوم، وخربة الشلف، ودار كركية، وأبو الغربان، ومليطة، والقبال. وبحسب الرواي، فقد كان إنتاج البلدة وفيرَأ، وكان يعرف طريقه إلى القرى المجاورة. فيما جادت أراضيها باللوف والسنية والبابونج والحمصيص (نبته صغيرة ذات مذاق حامض)، والجلجاس (تشبه النخلة ولكن صغيرة، ولها ثمرة صغيرة مثل البطاطا)، والجعدة والحُميض، والسلك، وغيرها.
وتابع: "كان في كل خميس ينعقد سوق البرين، وفيه يتوافد الناس من البلدات والمدن المجاورة للتجارة بالقماش واللحوم والذهب والخضار. وكنا نشاهد مواسم وادي النمل، والمنطار، أسدود، والنبي روبين، والرملة، التي كانت مثل العرس، وتعقد في شهر أيار، وفيها سباقات خيول على البحر، ودبكة، وأناشيد دينية للفرق الصوفية، وبيع، وشراء.

" مال وسلاح "
كان العرجا يشاهد الناس والتجار في سوق البرّين، وكان يلعب بالفخاخ، ويصطاد العصافير، ويتذكر اجتماع الأهالي قبل النكبة وإرسالهم الشيخ محمد عواد، رئيس البلدية إلى مصر لشراء السلاح، بعد أن جمعوا المال، وقرروا تدريب 360 شابًا على استخدامه.
وأفاد: "في إحدى أيام نيسان، كنا نلعب في المزارع، عندما أوقفتنا سيارة عسكرية للجيش المصري، فسألني الضابط (يا جدع وين المستعمرة)، فأشارت له إلى مكانها، وصعد إلى خزان المياه في البلدة، لينظر بالدربيل، ثم ينزل بعد أيام قليلة بدأ الجيش يدخل البلدة، وطلب من الناس أن يفحتوا ( يحفروا) خندقاً حولها، وظلوا يقومون بهذا العمل لشهر، حتى انهوه"
اختلط العرجا بالجنود المصريين، وكان يبيت بينهم في منزل أسرته، وتعرف على الأسلحة، وشاهد مدفع (أبو الستة رطل)، وراح يجر صناديق الرصاص معهم، وتعرف إلى الضابط القبطي وحيد، وشحاتة من المنصور، وسعيد القادم من السويس."

بسالة مصرية
وأضاف: "عشنا تحت الحصار والقصف ستة أشهر، وكانت البلد كلها ساحة معركة، وصد الجيش المصري العصابات الصهيونية مرات كثيرة، وشاهدت بعيني الشهداء والجرحى والطائرات، وكان يظن الجنود المصريون أن الطائرات الإسرائيلية التي تقصفهم هي مصرية" .
وروى: "هجرنا من البلد أنا وأمي وعمتي وأخواني، وظل أبي في البلد مع الجيش المصري، وروحنا على الدوايمة، وفقدنا عمتي في الطريق، قبل أن نعثر عليها. وعدت إلى الفالوجة لمساعدة العجوز فاطمة البعم، التي قالوا لها أن زوجها استشهد، فما أن دخلنا البلد، إلا وإصابتها قذيفة، وشاهدت كيف قسمت جسدها إلى نصفين، واحترق شعر رأسها، وجاء زوجها الذي تبحث عنه ليدفنها بنفسه."
واصل العرجا متنقلاً بين الدوايمة، ووصل دورا ثم مدينة الخليل، فأريحا، ثم سوريا، فالأردن، وانتهى بأريحا، وفرضت عليه الإقامة الجبرية واعتقل لفترة، ثم ليستقر به الحال في مخيم الفارعة، بانتظار العودة التي نفذها بعد النكسة عدة مرات، فكان يفتش خلالها عن بيته، والمسجد حيث تلقى دروسه، وضريح وليها.

أفراح وعفير
وقص حكاية الأفراح بطقوسها وأغانيها، فكان الزواج الدارج ينقسم إلى البدل (نكاح الشغار)، والزواج التقليدي، فيما ساعده موقع البلدة وتجارتها، على التزاوج بين سكانها والقرى المجاورة ككرتية، وبيت عفا وبعلين وصمّيل وحمامة. وكان الرجال يصطفون صفاً واحداً بلباسهم التقليدي ( الدماية)، ويشعلون الحطب، ويوزعون الشاي، ثم تأتي سيدةً منقبة أو كاشفة وجهها أحيانا وتسمى (الحاشية) لترقص بسيفها، وإذا ما حاول الرجال الاقتراب منها، فإنها ترفع السيف بوجههم، فيبتعدون بسرعة.
وقال: كانت بلدتنا تراقب الرياح لتستعد إلى المطر، وتحصن بيوتها قبله من الدلف، فيخرج الأهالي في عونة اجتماعية لإصلاح الشقوق والصدوع. وكان الفلاحون يعرفون العفير( بذر الحنطة)، ويزرعون أرضهم  بعد أول مطر، وكنا نشتهر بزراعة الترمس، ونتذكر  الوادي الذي يقسم بلدنا إلى شمال وغرب بامتداد نهر (السقرير) القادم من الخليل، فيفصلنا عن بعض، ويغمر الجسرين.

شتاء ورمضان
وتابع: في ليالي الشتاء، كنا نسهر في كجالس العائلات، ونسمع المتعلمين يسردون قصص أبو زيد الهلالي وعنترة والزير سالم، وشاهدنا ألعاب الفنجان والصينية، وأكلنا القطين والتمر على حساب الفريق الذي كان يخسر. وكان المطر عنيفًا وغزيرًا، ولا يتوقف إلا بعد عدة أيام، وحفظنا أمثال المطر المرتبط بقوس قزح والتي تقول :" إذا قوست صبحية إحمل عصاتك للرعية، وإذ قوست مسية دور لك مغارة دفية" .
ووالى: كنا نستقبل شهر رمضان بتجهيزات خاصة، بعد أن نعرف ثبوته من علماء الأزهر بمصر، وكانت تنشط لدينا الزوايا الصوفية الأربع، ونستمع إلى دق الطبول والموالد الرمضانية.
ووفق الراوي، "فإن ما كان يميز الفالجيون أن رجالها حافظوا طوال الشهر الفضيل، على تقليد اسمه (الخروج)، فيحمل كل واحد منهم طبقا من الطعام، ويجتمعون في مجالس الحارات، ويأكلون معا، وكانت البلدية تنير الشوارع بفوانيس الكاز من بعد العصر وحتى أن ينفذ ما فيها من وقود. وكان لكل حارة مسحراتي خاص بها، وكنا نسمع إلى خليل الراعي، وهو يقرع الطبل ويوقظ الناس من نومهم، ولا ننسى (المفتول) الأكلة الشعبية في رمضان، والمنسف دون أرز، أما الحلويات فأشهرها المطبق، وكان تجار غزة يحضرون لأسواقنا النمورة" .

مدارس وألعاب
وقال: "كان عندنا 8 غرف، وضمت بلدتنا مدرسة للبنات، وفي سن الخامسة نذهب إلى كُتّاب الشيخ عبد الحميد النشّاش، الذي كان مُقعدًا ويزحف على الأرض، ويمسك بعصاه الطويلة لمعاقبة من لا يحفظ دروسه، وعنده تعلمنا القرآن وبعض الدروس العربية.
انتقل عرجا إلى كُتّاب الشيخ جبر النجار، وكان متعلماً أكثر، ودرس التاريخ القديم منذ العصر الحجري. وفي عمر السابعة، تحول لمدرسة الحكومة، وكان زيها البنطال القصير والكاكي اللون (صيفاً شتاء)، والقميص الكاكي أيضاً، والجوارب الخضراء، مع حلق الشعر. أما البنات فكن يلبسن الأسود والقبة البيضاء، وأغطية الرأس، ويحملن حقائب قماش، يصنعنها بأيديهن. وكان ترتيب الصفوف يبدأ بالأول الابتدائي حتى السابع الابتدائي، ثم الأول والثاني والثالث والرابع الثانوي ( أو مترك لندن)، ومن يجتازه يصبح مسؤولاً عن الكليات.
تتلمذ الراحل العرجا على يد سامي وزهدي أبو سفيان من غزة، وأكرم رزق، ورمضان حنفي من تل الترمس المجاورة، والشيخ على حنفي من غزة، وأحمد العقيلاني، وفي الطابور الصباحي، كان يختار الأساتذة سبعة أو ثمانية طلاب لنشيد العلم، فيرددون: "علمي يا علم، يا علم العرب أشرقي، وأخفقي في الأفق الأزرق، يا علم، يا نسيج الأمهات في الليالي الحالكات، لبنيهن الإباء، كيف لا نفديك، كل خيط فيك، قطرة من دمعهن، خفقة من صدرهن، قبلة من ثغرهن، يا علم، سر إلى المجد بنا، وابني من الوطن، قد حلفنا للفناء، حلفة ترضيك، إننا نسقيك، من دماء الشهداء، من جراح الكبرياء، دمت للمجد سماء، يا علم" .
مما استقر في ذاكرة العرجا، مشاهدته أفعى كبيرة خلال حصة التعليم الزراعي، كانت مغطى بالزعانف، وهي أول مرة يرى فيها أفعى بهذا الحجم، وبقي مرعوباً فترة طويلة، رغم أن الشبان ألأكبر قتلوها بالفؤوس. ومن الملامح التي لا ينساها قصص علي بابا والأربعين حرامي، وجزاء سنمّار، وجحا ونوادره، وأناشيد (أنتِ سورية بلادي أنتِ عنوان الفخامة كل من يأتيك يوما طامعاً يلقى حِمامه (موته).
وقال قبل الرحيل: لعبنا (الطميمة) و(الدقة والحاح) و(الكرة) التي تشبه رياضة البولينغ، و(الحاضر) الشبيهة بالهوكي، وصنعنا الكرة من الجربان التالفة، وخلال الأعياد كان عمر البايض والحاج عبد العزيز وأبناء عمومته من العائلة ذاتها يصنعون المراجيح الكبيرة من الخشب، والتي كانت تدور بنا في سلال خاصة.

نكبة ورمّان
وأضاف: "سقطت بلدنا بعد صمود طويل، وأذكر أن ذلك كان في رمضان، وكنت صائما، وأغمي علىّ من العطش، فأدخلني والدي إلى المقهى، وأسقاني العصير، وأتذكر وجود الجيش المصري في بلدنا، وكيف كان الجو في رمضان معهم. ولا أنسى كيف أن الحصّادين هربوا من السهل القريب إلى داخل البلد، وهم يحملون المناجل من جيش الاحتلال"
.
من القصص التي رددها الراحل، كيف غمر ثلج عام 1950 خيام المخيم، وحين انفجرت وسط بيت أسرته عين ماء، أجبروا على النوم فوقها، بعد وضع الأشواك والحطب، ولا يسقط من ذاكراته يوم أورقت أوتاد الخيام التي أحضرتها وكالة الغوث لتمتين بيوت المخيم الطارئة، ثم أزهرت، وأثمرت. وقال: الرمان لا يموت، مثل حق العودة.